تفصيل
- الصفحات : 194 صفحة،
- سنة الطباعة : 2021،
- الغلاف : غلاف مقوى،
- الطباعة : الأولى،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-098-5.
المدينة قاطرة للتقدم والازدهار فقد شكلت عبر العصور مكانا للإبداعات والاختراعات والابتكارات والإنتاج والاستهلاك والتقارب والاندماج الاجتماعي، فوظائفها إذن متعددة من سياسية واقتصادية واجتماعية-ثقافية وغيرها. كما كانت دوما مكانا للصراعات والمغالبات وأيضا للفساد والجريمة، فهي مكانا للجميع يلجأ إليها كل باحث على كسب رزق ونسج علاقة وهروب من ملاحقة اجتماعية – نفسية. فإذا كان الريف لأهله فإن المدينة للجميع .
وزيادة على هذا فإن المدينة الحديثة أضحت موردا اقتصاديا نابعا من وظيفتها السياحية ولم تبق مكانا للسكن والإيواء والخدمات ومركزا للسلطة والحكم. هذا الذي أملى على الاقتصاديات الحديثة إيلاء هذا الجانب الأهمية البالغة في تنمية المدن وتخطيطها وتنمية عناصرها المادية والثقافية والجمالية الجذابة.
فتبقى المدينة بطبيعتها قديما وحديثا ومستقبلا هي قاطرة النمو والتنمية بلا منازع، ففيها تجتمع الموارد البشرية والاقتصادية والثقافية للأمة، ومن ثم فالتحكم في سياسات المدن والسياسات الحضرية يقود لامحالة إلى التحكم في السياسات التنموية بجميع أبعادها وقطاعاتها، ذلك أن كل الأنشطة تتم وتنجز في نطاق المدن وكذا التفاعلات الاجتماعية والثقافية والسياسية. فالمدن هي الأرضية الصلبة لكافة النشاطات. وبالأخص في العصر الحديث الذي تراجع أمامه الريف بلا عودة وهذا الأمر لا يحتاج إلى برهان ولا تأكيد فعصرنا هو عصر المدن وعصر التنظيمات ولا مجال فيه ولا مكان للفوضى والتلقائية.
ومن هذه الزاوية فالمقاربة الحديثة للمدن هي مقاربة تنظيمية التي تركز على البعد التنظيمي للحياة الحضرية، بصفتها كائنات منظمة كأي تنظيم آخر يولد وينمو ويستمر أو يموت. فالتنظيم هو روح المدينة ويخطئ من يعتقد أن روحها تلك المنجزات المادية الفيزيقية من بناءات ومنشآت وبنية تحتية، وإن كانت أساسية وتشكل جانبا هاما من تنظيمها في ربط العلاقات بين أجزائها وعناصرها وتوفير إمكانيات النشاط والنمو.
وقد يطول الحديث عن الآليات التي تتطور في نطاق المدن، مشكلة بنية اجتماعية وثقافية لكل التطورات التي تعرفها، وهي مفصلة وتزخر بها مؤلفات علم الاجتماع الحضري، فالقرب المجالي والتفاعلات التي توفرها البيئة الحضرية كفيلة بالامتزاج الاجتماعي وتنشئة اجتماعية جديدة ونشوء ثقافة خاصة بها يطلق عليها الثقافة الحضرية وما يترتب على كل ذلك من تغيرات اجتماعية ثقافية متواصلة. وفي مقابل ذلك فإن المدينة توفر بيئة مناسبة للأمراض الاجتماعية يترتب عنها تطور وسائل ضبط حديثة تستجيب لتلك التحديات، وهكذا تحدث التطورات المتلاحقة والمتعاقبة بلا توقف.
ولعل المدن الصحراوية اليوم وضمن هذه السياقات والوظائف تحتاج إلى هذا النوع من المقاربات والاهتمام قبل فوات الأوان ويحدث لها ما حدث لمدن الشمال. فهي قد تشكل موردا اقتصاديا بديلا عن المورد التقليدي للصحراء الذي أصبح مرادفا للنفط.
والمعرفة السوسيولوجية بالمدن حرية أن تسبق أي عمل إجرائي وسياسة تنموية، والعمل الذي يقدمه الدكتور طلحة بشير هو معرفة سوسيولوجية بالقصور الصحراوية الذي هو حصيلة بحث جاد ومتابعة ميدانية عن قرب وملاحظة واقعية بحكم تخصصه في علم الاجتماع الحضري وابن قصورها داركا لحياتها وديناميكيتها بالانتماء إليها والحياة فيها. خاصة وأن البحث قادته إشكالية واضحة ومحددة مكنت الباحث طلحة بشير من الوقوف على عدة مسائل حضرية خاصة بالبيئة الصحراوية وحواضرها.
تشهد المدينة الجزائرية عموما تحولات عميقة وسريعة جدا سواء من حيث الرقعة الجغرافية التي تحتلها أو من حيث أعْدَادِها أو من الناحية السكانية أو من حيث أشكال التوسع العمراني الذي في معظمه امتدادا وتوسعا غير متحكم فيه، الذي بات يجر السياسات وليس السياسات التي تجره، زيادة على نسبة التحضر التلقائي العفوي غير المخطط، كل هذا يطبع المشهد الحضري العام للمدينة الجزائرية الحديثة.
وتكمن أهمية العمل الذي يقدمه الدكتور طلحة بشير في أهمية الرقعة الجغرافية التي تمثلها الصحراء الجزائرية بالنسبة للمساحة الكلية التي تمثل ما نسبته 80% . وليس هذا فقط بل ما تتخلل هذه الرقعة من مدن منتشرة عبر أرجائها والرهانات المستقبلية للتنمية الوطنية الشاملة. فالاهتمام بهذه المدن يقتضي أن يكون اهتماما استراتيجيا لأنه يقدم ضمانات عدة في مواجهة تحديات المستقبل بفضل ما تزخر به من موارد وإمكانات تشكل بدائل تنموية إستراتيجية لا جدال فيها.
وقد عالج وناقش المؤلف في البداية مسالة المفاهيم الأساسية لتوضح الرؤية للقارئ حول المعاني المتخصصة لعلم الاجتماع الحضري، مثل مفهومي التحضر والمدينة، والمدينة الصحراوية وتصنيفاتها، والشيء الجديد الذي أبرزه المؤلف وتوسع فيه في ثنايا الكتاب هو مفهومي المدن الواحاتية ومدن القصور وهما المفهومين الخاصين بالحواضر الصحراوية الجزائرية، ويشكلان إضافة مفهومية معرفية خاصة بالمدن الصحراوية الجزائرية وهي ضرورية لتخصص علم الاجتماع الحضري في الجزائر.
كما يعرفنا بمدن الواحات وخصائصها في التعامل مع المياه ومدن القصور كخاصية حضرية صحراوية منفردة. فيجد القارئ مفهومين عمرانيين صحراويين مغاربيين خاصين جدا وهما مفهوم الواحة ومفهوم القصر الذي هو تجمع سكاني صحراوي. بينما قد تتشكل الواحة من عدة قصور، إذن فهو نظام اجتماعي عمراني صحراوي خاص.
كما عالج بعد ذلك المقاربات النظرية للمدينة كما حددها رواد علم الاجتماع الحضري مثل المقاربة الأيكولوجية والمقاربة الأنثروبولوجية لحياة المدن وإسقاطها على المدن الصحراوية، هذه المقاربات النظرية ضرورية للطلبة والباحثين المتخصصين للغوص في الظواهر الاجتماعية في المدن الصحراوية من أجل فهمها ودراستها وتفسيرها.
كما سلط الضوء على الأعمال التي تمت في العقود الأولى من الاحتلال الفرنسي بهدف التعرف عليها وبسط نفوذهم وبالتالي فهذه الأعمال لم يكن هدفها علميا بقدر ماكان عسكريا استراتيجيا، ومع ذلك فقد استخلص الباحث من هذه الأعمال تعريفا عاما بهذه المدن.
كما قدم مسحا مهما للدراسات التي تمت حول المدن الصحراوية الجزائرية من خلال مركز البحث العلمي والتقني ومراكز بحث أخرى متخصصة توصل من خلالها إلى نتيجة جديرة بالتنويه والإشارة تتمثل في الفقر الشديد الذي تعاني منه هذه المدن من حيث البحوث السوسيولوجية المتخصصة وهي دعوة غير مباشرة للطلبة والباحثين المتخصصين للبحث في هذا الاتجاه.
وفي هذا السياق التاريخي للمدن الصحراوية، قدم المؤلف إطلالة تاريخية مهمة عن تطورات المدن الصحراوية بدءً بالسياسة الاستعمارية في تشييد الحصون والأبراج للتحكم والمراقبة، ثم في الاهتمام بالثروات الباطنية سيما بعد اكتشاف النفط، ثم تتبع المؤلف تلك التطورات في السياسات الوطنية بعد الاستقلال من أجل النهوض بالجنوب وتدعيم السياسات التنموية في تطوير البنية التحتية بخطوط النقل البرية والجوية . وهكذا يقدم لنا الكتاب تعريفا مهما بسيرورة تطور المدن الصحراوية في سياقها الاستعماري أو الوطني التنموي.
وهكذا يقدم المؤلف طلحة بشير في كتابه هذا نظرة تاريخية عن المدن الصحراوية عبر التاريخ ووظائفها، ومن جهة أخرى يقدم لنا الكتاب لمحة مهمة حول الحراك المجالي للسكان الذي عرفته المدن الصحراوية، الحراك المجالي البيني والحراك المجالي من الشمال إلى الجنوب. هذه الظاهرة تكتسي أهمية على قدر كبير من الأهمية سوسيولوجيا تتمثل في التقارب المجالي بين السكان وما سيترتب عليه من تقارب اجتماعي، ويعود هذا إلى حركة التنمية التي عرفتها منطقة الجنوب والتي تمت في المدن اساسا مثل مدن النفط والمدن الجامعية.
هذا إضافة إلى الهجرة الدولية من ناحية بلدان الساحل الإفريقي، وهي ظاهرة تستحق الاهتمام والبحث والمتابعة العلمية. وقد وقف المؤلف على المشكلات العمرانية التي تواجه المدن الصحراوية والتي قد تعصف بها كما عصفت بمدن الشمال من حيث سرعة التوسع والامتدادات العمرانية غير المخططة في التجمعات الرئيسية والتجمعات الثانوية، وهو تحدي عمراني بيئي يبحث عن استجابة تنموية تتأسس على العلم والمعرفة متعددة التخصصات.
وفي الأخير يجدر بنا التنويه بأن البحث الذي بين أيدينا هو إضافة معرفية سوسيولوجية حضرية مهمة ووثيقة علمية تضاف وتثري المكتبة الجزائرية، سيجد فيها الطالب والباحث المتخصص ضالته، كما ستفتح آفاقا جديدة للبحث بالتوجه نحو هذه المدن وبالأخص بالنسبة لطلبة علم الاجتماع الحضري والأنثرويبولوجيا في جامعات الجنوب الجزائري.
الاستاذ الدكتور : بومخلوف محمد
في الجمعة: 24 / 07 / 2020