تفصيل
- الصفحات : 107 صفحة،
- سنة الطباعة : 2021،
- الغلاف : غلاف مقوى،
- الطباعة : الأولى،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-140-1.
شكّل “الشعر ديوان العـرب”، وهذا ما تردد في مصنّفات الكتّاب والنَّقدة سنينا عددا، ومردُّ هذا، أنّ العرب منذ العصر الجاهلـي – وربما قبله أيضًا- لم تحفل بفن من الفنون، كما حفلت بالشعر؛ لأن هذا الجنس التّعبيري، كما قـال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-:”كان علم قوم لم يكن لهم علم أصح منـه”، ومن هـذا القول نفهم أنّ الشعر لم يكن مجرد فنّ قولي، وكلام منتظم، وعبارات موزونة، وألفاظ مطرزّة، بل كـان سجلًا يوثّقون فيه أخبار أيامهم، ويحفظون فيـه أنسابهم ومناقبهم، فضلًا عن كونه مستودعًا للمعـارف والمعلومات وأداة للتّعليم والتربية وشحذ الهمم…إلخ، إنّه قانون وجودي تحكّم في الحياة العربية. ولما كـان الشعر يحتل هذه المكانة المتميّزة، فلاجرم أن يحتل الشاعر هو الآخر مكانة جليلة في مجتمعه؛ إذ إن الشاعر كان بمثابة المحامي عن قبيلته، والمسجل لمفاخرها، والذائد عن حرماتها، والمدافع عن كرامتها، حتى إنّ ابن رشيق القيرواني ذكر في العمدة أن قبائل العــرب كانت تقيم الاحتفالات وتصنـع الأطعمة، وتقيم الأعراس إذا وُجِد بينهم شاعر؛ فالعرب لا يهنئون إلا لأمور ثلاثة:”غلام يُولد، فرس تُنتج، شاعـــرٌ ينبغ”.
وإذا كان هذا المفهوم راسخًا في الأذهان، ولاصقًا في النفوس، لعصور كثيرة، فإنّ العصر العباسـي كان بداية ظهور تحوّلات مجدّدة في النّظر إلى الشعر وقوانينه؛ حيث طرأت حول هـذا المفهوم بعض التغييرات، مسَّت الأغراض والمضمـون بالأساس، وهذا يتجلـى فـي أشعار العباسيين الذين يعتبرون الرواد الأوائل للحداثة في الشعر ولهم قصب السبق في ذلك؛ وهذه التغييراتالتي حاقت بالأدب عامة والشعر بصفة خاصة، جاءت نتيجة طبيعية للتغيرات الاجتماعية والسياسية والحضارية التي واكبت العصر العباسي آنئذ؛ إذ لا يختلف اثنان عن مدى تأثير البيئة الاجتماعية في الأدب.
هكذا يكون الشِّعر قد بلغ، فـي العصور السابقة (الجاهلي، صدر الإسلام، الأُمـوي، العباسي) مرحلة الذروة؛ حيث وصل إلينا عبر نفوس الرواة في صورة متكاملة وتــامّة، لا يشوبها نقص، ولا يعتريهـا عيب، على الرّغم من غياب المرحلة الجنينيـة لبروز الشعر بوصفه جنسًا أدبيًّا واضح الملامح؛ إذ صورة الشعر فـي مراحله الأولى لم تصلنا، علاوة على هذا، أنّ ما وصلنا من الشعر لا يعدو كونه مجرد غيض من فيض؛ فكمـا قال أبو عمـرو بن العلاء:”ما انتهى إليكم مما قالت العـرب إلا أقلـه، ولو جاءكم وافرًا لجاءكم علم وشعر كثير”. غير أنّ هـذه الذروة العالية التي بلغها الشعر فـي تلك العصور، ما فتئت تهبط إلى أسفل السافلين، وتتقهقر إلى الحضيض؛ وهذا ما حصل فـي عصور التدهـور والانحطاط، حيث شهد الأدب عامـّة والشعر علـى وجـه التخصيص تـدهورًا ملحوظًا، وفقدانًا بيِّنًا لقوَّتـه وحيويته ورشاقته المعهودة وبلاغته المأثورة، وهذا إنمـا يدلعلى العلاقة الجدلية القائمة بين الأدب والمحيط الاجتماعي؛ فالأدب يزهو برقيّ المجتمع، ويأفل بتقهقر الحياة الاجتماعية والسياسية والحضارة.
ومع بزوغ عصر النهضة، ظهر بعض الشعراء والأدباء الذين حاولوا إحياء وبعث الشعر من الجمود والرّكود، فارتـأوا احتذاء الشعراء القدامى، واقتفاء آثار أشعارهم، فسقطوا فـي فخ الاحتذاء والتّقليد، إيمانًا منهم بما قاله أبو عمرو بن العلاء:”ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال”، فكانت أشعـارهم، ذكـرى تذكرنا بأشعار القدامى، إذ كانت تكتسي لـَـوْنًا قديمًا، سواءً في الأغراض، حيث نلحظ ترديد الأغراض القديمة المتمثلة في الفخر والغزل والوصف وغيرها، أو البنيـة، المتمثلة في عمود الشعر والبحور الكلاسيكية، إذ ظلت أشعارهم حبيسة البحور والمعمارية القديمة، أو الصورة الشعرية، فلشدة تأثر شعراء البعث بالشعراء القدامى، ظلت الصور الفنيـة القديمة صدىً يتردد فـي أشعارهم، فلم يتوسلوا بخيالهم، فـي إبداع صور جديدة، وتصـورات حديثة، بل اكتفوا بالتكرار والتقليد، فشاعت في أشعارهمالتراكيب القديمـة، من قبيل:(واحر قلباه، غصن النقا، أحر من الجمر، سهام الجفون، عيـون المهـا، وجهٌ كالشمس، شجاع كالليث، كالبدر في الإشراق، دموع التصابي، سقت وردًا…)؛ وغيرها من التراكيب التي ارتبطت بشعر القدامى.
ومما لاشك فيه، أن المجتمع العربي في العصر الحديث تغير، ومن ثمّ، يجب لنظرة الشّاعر أن تتغير معه، ففي عصر الآلة، والثورة التكنولوجيّة، لم تعد الأساليب والصور الفنية والتراكيب القديمة تجدي؛ لذا وجب البحـث عن مرحلة شعرية تواكب تطور المجتمع، وتَنْظُرُ لهُ بعيون الحاضر لا بعيـون الماضي؛ وضمن هذا التّصوّر المواكِبِ لحركة الحياة وتقلّباتهاانبلجتْ المدرسة الرّومانسيةفي الشعر العربي الحديث، التي واكبت التغييـرات الجذريـة التي حاقـت بالمجتمـع، وحملت على عاتق رسالتهامهمّة التجديد والتحديث، والتنظير لمرحلة شعرية تؤسس للأدب العربي الحديث، إيمانًا منها بعدم جدوى العودة إلى الشعر التّراثي الّذي لم يعد يستطيع الإجابة عن أسئلة الحاضر، لا ولا في مقدوره التعبير عن حاجة الإنسان المعاصر.
وظهرت فرق أدبية متعدّدة، ومدارس شعرية مختلفة انبثقت من رحم الرؤية الرّومانسية كمدرسة أبولو ومدرسة الدّيوان والرابطة القلمية التي نشطت في المهجر، وقادها إلى التوهّج والتنوير والتّأثير رئيسها وقائدها جبـران خليل جبران الذي يُعتبر الرائد الأول في تجديد الأدب، وتأسيس الأدب العربـي الحديث، إذ سعى إلى هدم القصيدة العمودية السيميترية وتدميرها، وبناء روح شعريةأخرى تنبض فيها الحياة الجديدة والحديثة.
ولما كان لكل عصـر لغةشعرية وصـور فنيةوأساليب وتراكيب تميّزه، جاء جبران خليل جبران ليكون بمثابة “مفاجأة” للغـة؛ إذ من خلال تجربته الأدبية الرّائدة أغنى الأدب العربي الحديث شعرًا ونثرًا؛ فالمتأمل في إنتاجه وإبداعه يتأكّد له مدى غنىهذه التّجربة وتفرّدها، وسيلحظ مكامن الجدّة عنده،ومفارقته لكل ما هو مألوف، وميله إلى الكتابة الرؤيوية الرمزية التي تتغلغل فـي أعماق الخيـال، وتنبش في كينونة الابتكار والخلق، وكل ما يثير الدهشة في نفس القارئ، ويكوِّن نشوةً تحفّز فضـول القـراءة، ونظرًا لتفرد “التجربـة الجبرانية” وغناهـا؛ تروم هذه الدّراسة الوقوف عند أحد معالم الجدّة والتّميز في الأدب الجبراني الشعري والمتمثل في قصيدته المطوّلة التي عنونها بـ” المواكب”؛ إذ تتوجّه إلى صياغة قراءة تحليلية لهذه القصيدة، لما تكتسيه من أبعاد فنّية زاخرة من جهة، وباعتبار القصيدة تعبيرًاعن شخصية جبران الأديب والشاعر والفيلسوف، وما تحفل به أبياتها من تصوّر للحياة والكون والإنسان والوجود، بل إنّ مواكب جبران أصل لكلّ مؤلفاته الكثيرة؛ إذ يمكن اعتبارها دستور جبران، ومَنْ يفهمها فقد فَهِمَ فلسفة جبران وفكـره؛ فقد أفشى فيها جميع أفكاره وآرائه إزاء الكثير من الأشياء. الأمر الذي جعلني أقوم بتبئير الإضاءة حول قصيدة المواكب في هذا الكتاب.
ومرام الدّراسة هو محاولة سبر أغوار قصيدة المواكب، ولبلوغ هذا المرام، وإلى جانب الضرورة الملحة فـي التوسل بمنهج نقديّ ما؛إذ المنهج هو المصباح الذي يُضيء عتمة النص ويُزيل ظلامه الدامس؛ ارتأيت أن أتوسَّل بمنهج تكامليّ يسترفد مقولاته التحليلية من معين حقول معرفية متنوّعةحتّى ننتصر للنّص الإبداعي؛ فالأدوات المنهجية هي وسائل لبلوغ غاية أساس هي الإنصات لنبض النّص، والقبض على دلالاته وأبعاده الفنية الجمالية ومقوماته التداولية الحجاجية.
جعلت الكتاب في بنيته العامة، مشتملًا على فصلين اثنين، أما الفصل الأول فقد خُصص لتقديم نظرة شاملة عن التيار الرومانسي، وحياة جبران الأدبية وتحديد مدرسته الأدبية، ثم محاولة الحديث عـن تجربته فـي التجديد، وفـي الأخير قمت بإعطاء نبذة عــن قصيدة المواكب وتعريفها، باعتبارها موضـوع البحث. أما الفصل الثاني فجعلته تطبيقيًا، ففي البدء قدَّمـتُ استراتيجية القراءة وهي عبارة عن مدخل أبيِّن فيه السَّبيل الذي سأسلكه في تحليلي لقصيدة المواكب، بعد هذا كان لابد من الوقوف على مضمون القصيدة، ثم انتقل للحديث عـن اللغة الجبرانية، ثم تصدَّى للتناص فـي القصيدة، إضافة إلى دراسة للبنية الإيقاعية، ثم بعدئذ قمت بمحاولة دراسة الصور الشعرية.