تفصيل
- الصفحات : 351 صفحة،
- سنة الطباعة : 2024،
- الغلاف : غلاف مقوى،
- الطباعة : الأولى ،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-796-0.
معلوم أنّ الفكر الحداثي الغربي أسهم بقسط وافر في ابتكار كثير من الحقائق المعرفية، وعبر ظهرت التيارات الفكرية والمذاهب الفلسفية، والتنظيرات المختلفة في مجالات عدّة، تنحصر في الإنسان رأسا على اعتبار أنّ الحركة الحداثية تراه مركزا للكون، ولهذا دخلت في جميع ميادين حياته، ومنها الحقل اللغوي واللساني والإبداعي، هذا الأخير الذي يعد من أظهر تجلياته.
لذا اتجهت بوصلة النقد الأدبي بالنظر إليه والاعتناء به، فما الإبداعُ إلاّ صورةٌ عن دَخيلَت الإنسان، ورؤيةٌ في تفسيرِ وجودِهِ وواقِعِهِ، وإذا كانت اللغةُ بيت الوجُودِ كما يقال، فإنَّ الإبداعَ سرٌّ من أسرَارِه، لذا قامَ جِهازُ النَّقدِ المنهجِيِّ في العملِ على كشفِ حقَائِقِه وإدراكِ رُؤاه، عبرَ طرحِهِ لمنظوماتٍ معرفيةٍ مُعقَّدة ارتبطت فيها الأبعادُ النّظرية بِسُبُلِ الإجراء، هذه الأخيرة هي ما تُنعَتُ بِمَنَاهِجِ النّقد الأدبي، وفي خِضَمِّ جَدَليةِ النَّصِ والمنهج، تزاحمتِ المناهِجُ النّقدية على الإبداعاتِ الأدبيةِ في المقصِدِيةِ المذكورة، غيرَ أنّها سُرعانَ ما اكتَشَفَت مع أَفُولِ أوَّلِ مناهج السِّياق، أنّ للنَّصِ الإبداعيّ ميزة زِئبقية مُتفلتة، فَبِقَدْرِ ما يُنيرهُ منهجٌ بِقدرِ ما يكشفُ لمنهجٍ آخرَ زاويةً مُظلمةً منهُ، وهكذا تَنَاسَلَتِ المناهجُ وتَبَايَنَت بعدَ هذا التّعدُدِ المقاربَاتي، والحوارات المفتوحة في الفهم والقراءة.
وأيًّا ماتعددت تصانيفُ المناهجِ النقدية، فلعلّ التعبير بالسِّياق والنَّسق، يُوافِقُ نقاطَ الاشتراكِ بين أغلبِ المناهج التي قد تُجمَع على اصطلاحاتٍ أخرى-ولامشاحة في ذلك-، فيما يُسمّى بالدّراسة الخارجية والدّاخلية للنّص، أو المناهج التقليديةِ والحداثيةِ ومابعد حَدَاثِية، أو النَّقد النّصيّ والنَّقد خارجَ النّص وغيرها.
إنَّ الـمُعوّلَ عليهِ في تحديدِ مقاصدِ النّص بالنسبة لمناهج السِّياق، على تلك العلاقاتِ الخارجةِ عنهُ والباعثةِ لإبداعِهِ وإنتاجِه، على أساس أنّ الإبداع لابُدَّ وأن يتلبَّسَ بِعِلَلِهِ الثقافيةِ والاجتماعية والنّفسية ونحو ذلك، وهنا تغدو القراءة السِّياقية للنص الأدبي وصفةً لواقِعِهِ وصورةً عن صاحبه، هذه المقاربات المنهجية في النّقد أدّت فيما بعدُ وبشكلٍ واضحٍ إلى غياب الاهتمامِ بالبُعد اللغوي في قراءاتها، فكان أن أدارت المناهجُ النّسقيةُ رحى النّقدِ صوبَ النّص بِوَصفِهِ بِنيةً لُغويةً مُكتفيةً بِذَاتِها، فهي تنطلِقُ من النَّص عبرَ تَحليلِ أَلفَاظِهِ وتَراكيبِهِ مع إدراك العلاقات بين أبنيته وتشكيلاته اللغوية، لتعودَ إليهِ مُتلمِّسةً مَقَاصِدَهُ وأبعادَهُ الجمالية بعيدا عن جميعِ الصِّلاتِ والمعارف الخارجَةِ عنه، على اعتبار أنّها حقولٌ معرفية لاعلاقةَ لها بِنَقدِ الأدب.
من المنطقي أن تكون المنظومة المنهجية الثانية في مُجملها ثائرةً على المسارِ المنهجي الأوّل، مع أنّ داخلَ كلِّ مَسَارٍ انتماءاتٍ منهجيةٍ حاملةٍ لـمُراجعاتٍ بين لاحِقِ المنهجِ وسَابِقِهِ، وفي كنف هذه الصَّيرُورة بدأت ملامحُ الأزمة المنهجية بالظهور في واقع النّقد الغربي، وبَلَغَت مَدَاهَا مع الرؤى المنهجية المابعد حداثية التي فتحت النّقد الأدبي على مايسمّى اليوم “بالإبداع التّحليلي” فأضحى مُوازيا للإبداع نفسِه، الأمر الذي سار به نحو الشَّطَطِ والانفلات بمقتضى ماحُمِّل من مُواصفاتِ الإبداع الذي أقلُّ ما يمكنُ أن يُنعتَ به، التَّعدُدُ واتِّساع الأفق، ولعلّ هذا مايفسّر إيمان التفكيكية مثلا بفكرة لانهائية المعنى، ولامحدودية التأويل.
وفي هذا الصَّدد يَنطرحُ سُؤال الواقع النّقدي العربي، خاصةً على مُستوى خِطاب المنهج الذي لاينفَكُ يَزدادُ طرقًا ومُباحثةً بعدَ أن لم تصلْ مَشاريعُ النُّقادِ فيه إلى استقرار، ولامَندُوحَةَ من هذا؛ لأنَّ جُزءا كبيرا من
الأزمَةِ المنهجيةِ تَعودُ إلى صَدمَةِ الحدَاثَةِ واختلافِ النّقادِ حولَ مُقرراتها، فبعد أن تَهيّأ للنّاقد العربي النّظرُ بافتتان إلى مستوى الخطاب النقدي الغربي ورصدِ تطوراته خاصة على صعيد المنهج، تحتم عليه أن يتحمَّل كثيرا من تَبِعاتِ هذا الانطراح الذي أسفر في مرحلة لاحقة على تفاقُمِ حِدّة الأزمة المنهجية وبالخصوص إذا آل الأمرُ نحو سُبُل التّطبيق؛ إذْ غالبا مايقع النّاقد العربي في حَرِيجَةِ القراءة بعد سَبرِ تلك الإجراءات المنهجية على نصوص الإبداع العربي، وفي ظل هذه المفارقة البينية ارتضى كثير من النّقاد البقاء في إطار التنظير بعيدا عن رهان التطبيق، في حين طُرح سؤال المنهج في مشاريع البعض الآخر، كمحاولةٍ منهم للتّصدِّي لهذه الأزمة وتقديمِ بدائلَ منهجية لقراءةِ الإبداعاتِ الأدبية الشّعريةِ على وجه التّحديد، كون الثقافة الأدبية العربية تصبُّ غالبا في الشِّعر، ومن المعلوم أنّ النّص الشِّعري الجاهلي بقي مثيلاً للتّجربة الإبداعية لذلك كانت القصيدة القديمة تَقرُبُ أن تكون من مُستلزمات العناية القرائية عند النّاقد العربي.
ويعدّ إبراهيم عبد الرحمن واحدا من أهم النّقاد الذين انبروا للإجابة عن سؤال المنهج في قراءة التراث الشِّعري، فبعدما أدركَ واقعَ الأزمة المنهجية في نقدنا المعاصر، بدأ بتأصيل مواقفه من التراث الشِّعري والنّقدي، وبإزاء ذلك مواقفه من الحداثة المنهجية الطارئة، وهذا بغرض بناء مُرتكزٍ معرفي يمكن من خلاله أن يؤسِّس لنظرية نقدية تخرج من رحم التراث، ومن واقع الحداثة.
إنّ الكلام عن مواقف إبراهيم عبد الرحمن وقراءاته التأصيلية، كلام عن مرحلة ماقبل المنهج في مشروعه النّقدي الذي تمخّض عن إشكالٍ منطقي مَعدُودٍ من أهمِّ العقبات قبل بناء منهجه، وهو معالجةُ السّؤالِ الجَدَلِي المطروح في المنهج النّقدي بين الأصالة وواقع الحداثة، كي يتمكّن بعدها من تجميع الأفكار والربط بين عناصرها المختلفة.
فبالنسبة لموقفه من الحركة النّقدية الحاصلة في الثقافات الأجنبية، يرى أنّها حقَّقت تطورا يصعُبُ على النّاقد العربي تجاهُلَهُ بالانغلاق على ثقافته الموروثة، لأنّ في هذا السُّلوك العقلي قناعة ثقافية لاتتفق مع المسلك الحضاري، ولكن هذا لايعني الدّخولَ بالنّقد العربي في تبعيِّةٍ مُطلقة، لأنّ هذا يحوِّلُ النّاقدَ العربي إلى مُتلقٍ سِلبي لمنجزات الآخر، وذلك بعد أن يُصبح قانعا بمنطق المركز والهامش، الأمر الذي قد يؤدي به إلى هُجنةٍ واغترابٍ معرفيّ جراء محو ذاكرته الثقافية والانمحاء في الواقع الحضاري الغربي بلا شَرطٍ ولاقيد، فهذا النَّوع من التّطلع المعرفي المستنسخ لايراه إبراهيم عبد الرحمن باسمِ حتمية الحداثة، لأنّه من المسالك التي أورثتنا ميلاد الأزمة النّقدية والمنهجية، وعلى هذا يرى أنّ التعرض للمنجز الغربي النّقدي والمنهجي، لابد وأن يكون وفق رؤية مُمنهجةٍ قائمة على الاستثمار بطريقة استنباتية، تقوم على الاستفادة من المفاهيم والأفكار وإخضاعها وفق حدود الإمكان إلى التكييف والتبيئة مع شرطية الحفاظ على الهوية واستقلال الذّات، وبهذا لا يعلن إبراهيم عبد الرحمن عن القطيعة المعرفية مع الآخر، وإنما يعلن عن معارضة العقلية الاستهلاكية، التي لم يُجن من ورائها سوى الشطط والتأزم.
ويأتي موقف إبراهيم عبد الرحمن من التّراث بنفسِ النّسق مع موقفه من الحداثة النّقدية، فبعدما أدرك طبيعةَ تَطوّرِ الواقع المعرفي الحديث خاصة في حقول العلوم الإنسانية واللغوية، تبيّن له أنّ التراثَ رغمَ أنّهُ يعيشُ فينا إلا أنَّنا لايُمكنُ أن نعيشَهُ بكلِّ جُزئياتِه، ومن ثمّة فإنّ قِوامَ استراتيجيته المعرفية في النّظر إليه تبدأ من الوعي بِهِ بعد طرق مفاهيمه بِجَراءة علمية تُستقى من داخل نسقهِ الثقافي، ومن المعارف المنهجية الحديثة-بعد الوعي بها أيضا- فهذه الاستراتيجية تسمح بعد ذلك أن نستلّ من التراث المعالم الثقافية والمفاهيم المعرفية التي تضمنُ بقاءه ككتلة هوياتية فينا، لأنّه الجانبُ الذي يجري عليه التّطوير والبناء بمعالجة مختلف قضاياه وإعادة قراءتها وتفسيرها، وهناك جانب آخر منه لا يمكن أن نمدّ إليه جسور التّواصل لأنّه وليد مرحلةٍ بدأ فيها وانتهى إليها، ولأنّ التراث في نظر إبراهيم عبد الرحمن ليس إرثا جامدا وإنّما هو حياة تتجدّد.
لقد وصل إبراهيم عبد الرحمن إلى قناعةِ أنَّ التراث حَلقٌ لا يمكن قطعُهُ ولا بَترُه، كما أنّ الحداثةَ خُطوة لا يمكن تجاهلها، لذلك دعا إلى نقدٍ مزدوجٍ لهما، حيث يرى أن لا غَنَاءَ عن التراثِ ولا عن نقدِهِ، كما أن لا غَنَاءَ عن الحداثةِ ولا عن نقدِهَا، ووفقَ هذا المنظور تأسَّسَ مشروعُه المنهجي وعليه قامت أنظاره النّقدية هذه النّظرة المتكاملة في النّقد، مكّنت إبراهيم عبد الرحمن من وَضعِ مُرتكزاتٍ إجرائية في منهجه النّقدي كما سمحت بضبطِ عناصره وأُسُسِه، فهي إيذان بمرحلة ميلاد المنهج النّقدي وتصوّر عن نموذجه المعرفي بعد الاستقراء والتركيب، لتأليف ما يصِحُّ أن يكون منهجا جديدا لدراسة القصيدة العربية عموما والجاهلية على وجه الخصوص.
وبعد أن ذهب إبراهيم عبد الرحمن إلى أنّ مُعظمَ الدّراسات القديمة والحديثة -على الرغم من اتساع مناهج هذه الأخيرة-لم تَستَنفِد مكاشفَ ومَغَالقَ القصيدة العربية القديمة، بل ظل جزء كبيرا خافيا عليها جرّاء ما اختطَّتهُ من آلياتٍ قرائية ظلت قاصرةً نسبيا عن إدراك كُنهها وتفسير تناقضاتها ومعرفة معانيها ودلالاتِ لغتها، لذلك سعى إلى تفادي الخلَلِ الواقع في المنظومتين المنهجيتين السّياقية والنّسقية الذي يرى مَكمَنَهُ في غياب البعد الفني في دراسة القصيدة، فمع السّياق أضحى النّص الشِّعري وثيقةً منقولة عن الواقع لايتعدى أن يكون مصدرا تاريخيا أو اجتماعيا أو نفسيا، وغدا مع القراءات النّسقية في احتكامٍ إلى مُحايثةٍ مغلقةٍ أَقرَبَ ما تكون إلى الرموز العلمية منها إلى الدّراسة الفنية للغة، وأمّا بالنّسبة لِدِراسات القدامى فإنّ أهمَّ نقطة يراها مسؤولةً عن حَجبِ بعض معاني القصيدة، ذاك الفهم المعياريّ الصّارم الذي بات يُمارس رقابةً تقنيةً على الإبداعات الشِّعرية، كالذي نراه في الخطاب النّقدي البلاغي عند تتبعه لقواعد اللغة وأساليب الجمال، تلك الأحكام المعيارية التي انعكست على قضايا فنية شتى كاللفظ والمعنى والصّور الفنية والمجاز وغيرها، الأمر الذي جعلها تتأخر عن إدرك القصيدة بشكلٍ أكثرَ دِقّةً وغوصًا في المعاني والدّلالات، كما أدّت هذه النّظرة الأسلوبية إلى تغييب الأبعاد السّياقية التي قد تَكشف عن كثير من المعاني الثقافية المنطوية في لغة الشعر القديم.
إنّ هذه الحملة النّقدية المزدوجةلم تمنع إبراهيم عبد الرحمن من اتخاذ التراث مرجعيةً ونقطةَ انطلاقٍ لتلبيةِ إشكالاته وتساؤلاته المطروحة على القصيدة الجاهلية، فاستمدّ من البلاغة العربية أصول النّقد الفني مستنيرا بالمعجم وبالكتب التاريخية التي نظّرت لثقافة العرب، كما استمدّ من مناهج النّقد الأدبي أصولها الكلية في التعامل مع النّصوص الإبداعية ضمن سلسلة علاقات الإبداع، مع الواقع ومع المبدع ومع الإبداع نفسه.
بناءً على ماسبق، يُعرب إبراهيم عبد الرحمن عن نَهجِهِ القرائي للقصيدة الجاهلية، وذلك بإبداء ثلاث ملاحظاتٍ تشخيصية عن مقوماتها الفنية، تختصُّ الأولى بالكشف عن طبيعة الوحدة الفنية والموضوعية للقصيدة، ثمّ محاولة حلِّ التناقض الظاهر من اجتماع الأغراض الشِّعرية في القصيدة الواحدة، وبعدها إدراك وظيفة هذه الأغراض المعبّرة عن قضايا الحياة والإنسان، في صورة معبّرة هي الأخرى عن المعنى داخل القصيدة وليس على سبيل استقلال كلِّ غرضٍ بمعناه، فهو منهج-كما يقول- يقوم على أساس التَّحليلِ الفني لِصُورِ الشِّعر وأساليبه، والإدراك الرمزي لأغراضه ومعانيه، وبهذا يمكن تصنيفه ضمن الدّراسة الفنية للقصيدة العربية، إلا أنّه أعاد تركيبه في مُقترحٍ منهجي جديد، تكاملت فيه الأصول التراثية مع الأثر الحداثي، فقد اشتمل على ثلاثة عناصر أساسية، يقوم العنصر الأول على فكرة أنّ العمل الشّعري ينبُعُ في الحقيقة من ذلك التآلف الذي يقيمه الشاعر بين حقيقتين متقابلتين، الأولى أنّ واقع الفن الشّعري مُتميّز عن واقع الحياة الحقيقي، والثانية أنّ الشِّعر تعبير فني عن هذا الواقع، أو هو رؤية له، إذِ المتأمل للنّص الشعري يلاحظ أنّه يستمد مادته من واقع الحياة حوله، ولكن هذا الواقع على الرغم من ذلك يستحيل في الشّعر إلى واقع آخر متميّز عن الواقع الحقيقي، فللتعبير الشعري مستويين، الأوّل عند إعادة تشكيل الواقع إلى خلق فني جديد يؤدَّى بلغة فنية تصويرية، والثاني هو رموز تلك الصّور الفنية والمواقف الخاصة بالشَّاعر، ووسط اجتماع هذين الأمرين المتناقضين من انفصال الفن الشّعري عن الواقع، واتصاله به في الوقت ذاته للتعبير عن قضاياه تعبيرا رمزيا، يخرج البناء الفني للقصيدة الشعرية التي استطاعت جمع هذا التناقض.
ومن خلال هذه النّظرة الفنية إلى بناء القصيدة، يدخل إبراهيم عبد الرحمن إلى العنصر الثاني من عناصر هذا المنهج الذي اصطلح عليه بمصطلح الوِحدة، فالقصيدة القديمة على الرغم من تعدد موضوعاتها وأغراضها، إلا أنّ تلك الأغراض تفقد في هذا البناء الفني معانيها وخصوصياتها الموضوعية لتصبح أجزاء متكاملة في بناء جديد هو القصيدة، فالأغراض تتضامن داخل القصيدة لإبراز رؤية بعينها لذلك كان مَقصودُ الوِحدة عنده لا يخصُّ الجانبَ الأسلوبي من بناء العبارات وانسجامها وانتظام نَسجِها وحُسنِ خُروجِ الشَّاعر من معنى إلى آخر إلى غير ذلك مما هو معروف في النّقد العربي القديم، وإنّما يقصدُ بالوحدةِ وِحدةَ الموضوعِ ووِحدةَ المَشَاعرِ والمواقف، فهي التي تجعل من الأغراض والصّور المختلفة والمتباينة في القصيدة الواحدة غاية بعينها، هي هذا الموضوع أو ذاك الموقف، وقد اصطلح عليه بمصطلح “المعنى الرمزي” للقصيدة.
ومادام أنّ كلَّ غَرضٍ لايستقِلُّ بمعناه إذا كان داخل القصيدة، فإنّ العنصر الثالثَ والأخير من منهجه النّقدي يقوم على تحديد وظيفة هذه الأغراض الشِّعرية، لأنّ مفهوم الوِحدةَ يتطلب تقصي الدّلالة الرمزية لكلِّ غرض للوصول إلى خيطٍ جامع بينها هو ما أراده الشّاعر عند كتابة القصيدة، ذلك الذي اصطلح عليه إبراهيم عبد الرحمن بمصطلح “المقوله” حيث يرى أنّ لكلِّ قَصيدةٍ مقولةً ينبغي على النّاقد أن يصلَ إليها كي تُكشَفَ له عوالمها، على أنّ المقولة تنكَشِفُ بعد إدراك مباعثها أو ما يسمّيه إبراهيم عبد الرحمن بــ”توترات القصيدة” التي تعدّ جوانبَ سَبَبِية في إنتاجها، وهي ماكان يَعتَمِلُ في نُفوسِ الشّعراء من صراعات بين الحياة ومظاهرها المختلقة، وعلى هذا تكون القصيدة بأغراضها المتنوعة وبنائها الشَّكلي الثابت ومقوماتها الفنية، بناء وجداني متكامل، يؤدّي إلى موضوعٍ برأسه.
هذه النَّظرة الإجرائية الأخيرة دفعت إبراهيم عبد الرحمن إلى التّساؤل حول طبيعةِ الشكل النمطي في الكتابة عند الشّعراء، وتلك المحطات المتكررة من الأغراض للكشف عن تعابيرها الرمزية والوقوف عند دلالاتها الخادمة لما سمّاه بمقولاتها، لأنّ القصيدة قبل أن تكون بناء وجدانيا متكاملا هي بناء رمزي متكامل؛ إذِ الدّلالة الرمزية للأغراض تتوحَّد خادمةً بعضها لتشكيل المعنى الوجداني المتكامل في القصيدة، فبعد أن لاحظ إبراهيم عبد الرحمن تكرار الشُّعراء لنمطٍ واحدٍ في توظيفِ الأغراض ومع ذلك لم تستوي القصائد في الدّلالات بل كلّ قصيدة تستقلُّ بمعنى، كما لاحظ أنّ طبيعة تلك الأغراض تتَّصِفُ في أغلبها بالمبالغة في التَّعابير، ما يوحي بأنّ الشَّاعر بهذه النّماذج الشِّعرية قد قطع شوطا كبيرا بينه وبين واقعه الحقيقي، لهذا كانت التراكيب اللغوية داخل تلك النّماذج رموزا فنية وموضوعية عن واقع الشَّاعر الحضاري والثقافي وعن مواقفه وقضايا حياته، كما يُوحي بأنّها أنماطٌ موروثةٌ تُحيلُ على رمزيةِ بداياتِ الشِّعر، وعلاقةِ الإنسانِ القديم بالكلمة.
إنّ انشغال إبراهيم عبد الرحمن بمحاولة تفسيرِ الرُّموز اللغوية في الأساليب الفنية، قاده إلى مَلحَظٍ ثقافي مهم في تاريخ الثقافة العربية، وهو البعد الأسطوري المنطوي في تلك الأساليب، لذلك يرى أنّ فهم الشِّعر الجاهلي لايتأتى إلا بفهم طبيعةِ أسلوبه التَّصويري فهمًا لغويا صحيحا، وتحليلِ صُوره المركزة تحليلا يكشف عن أصولها الميثولوجية بعد إبراز مختلف العلاقات التي يقيمها الشَّاعر الجاهلي بين عناصر الصُّور البيانية وبين مواقفه في الحياة، تلك العلاقات التي تُنبئ على قرائنَ تعودُ إلى طبيعة علاقة الإنسان العربي القديم بتفسير مظاهر الطبيعة والوجود، ونمطِ تفكيره الأوّلي فيها.
ولَـمَّا لم يكن ارتباطُ الأسطورةِ بالجانب الطُّقُوسي فقط وإنّما ارتَبَطَت أكثرَ “بالكلمة”، كانَ اهتمامُ إبراهيم عبد الرحمن ببناءِ لُغَةِ الشِّعر الجاهلي من أولى أوّلياتِهِ في القراءة، لأنّ الفنَّ الشِّعري في المقام الأول بناءٌ لُغويٌّ تُعادُ خلقُ اللغةِ فيه خَلقًا فنيًا جَدِيدا، لذلك كان تحديدُ مدلولاتِ اللغة تحديدا تاريخيا يضعها أمام مفاهيمها المرتبطةِ بواقعها الثقافي مِن أعوصِ تَحدِّياتِ النَّاقِد، ولهذا أعملَ إبراهيم عبد الرحمن المنهج اللغوي المقارن لمعرفة أُصولِ الألفاظِ بين مُختلفِ اللغاتِ المشتركة، كما لجأ للمنهج الأنثروبولوجي والأركيولوجي الذي يبحث في ثقافات الشُّعوب عن طريق النُّقوش والحفرياتِ لمعرفة واقع الثقافة الدّينة للعرب، مع رصدِ مُختلفِ روافدها، وكل هذا بغرض إدراك المعاني الأسطورية التي نبعت مِن مِشكاةِ اللغة التَّصويرية الرامزة.
يمكننا القولُ أنّ إبراهيم عبد الرحمن عَالج قضيتينِ كبيرتين أدّت الأولى إلى فتحِ بابِ الثانية، وهما: القضية المنهجية والقضية الثقافية، هذه الأخيرة التي اشتغل فيها على موضوع الأسطورة، والتي حَـمَلَتهُ بعد ذلك على مُراجعة ومُساءلة عدّة مباحثَ نقديةٍ ومعرفية، كنِسبَةِ الأسطورةِ إلى ثقافِة العرب والتَّحقِيقِ في قضيةِ الرِّوايةِ والتَّدوين، وموضوع أمِّيَّةِ العرب، والتّأريخ الدّيني لهم، وقضية المعجم وغيرها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عَمدَ إلى دراسة الكُتُبِ التُّراثية التي أصّلت وأرخت للفِكرِ الدّيني عند العرب للاستناد عليها في تبرير تفسيره الأسطوري للشِّعر الجاهلي، وبهذا يكون قد خَطَى في دَربِ التَّأثيل والتّنظير لرؤية جديدة لم تُسلف من قبل.
لاشك أنّ المتأمل للطَّرحِ المنهجي لإبراهيم عبد الرحمن يُدركُ وِجهَتَهُ المركبة والمتكاملة فيه، خاصة بعد أن انطلق من رؤيةٍ مُحددة لمفهوم النّص الشِّعري، حيث يَراه مُعادِلاً فَنِيًا للواقعِ وحاملاً رؤيةً للعالم، لا مُجرَّدَ تَقريرٍ عن صاحبه أو وثيقةً عن واقعه، وتلك العوالم هي مَاثِلَةٌ في لغةِ النَّص، لذا كان الوصول إلى المعاني لا يكون إلاّ بقراءة لُغَةِ النَّصِ تحليلاً، والكشفِ عن رُمُوزهَا تَأوِيلاً.
وعلى إثر موضوع المنهج كان لإبراهيم عبد الرحمن أنظار نقدية وقراءات في إطار نقد النّقد، ذلك الذي نجده في نقدِهِ للعقاد ونازك الملائكة وصلاح عبد الصبور، وقد كانت له استراتيجيةٌ معرفية في نقدِ النُّصوصِ النّقدية، تقوم على دراسةِ الخلفيات والمرجعيات النّقدية لآراء النُّقاد، ثم مُعاينةِ إضافاتهم فيها إن وجدت، وبعدها عَقدُ مُقارنة بين الجانبِ النّظري والتَّطبيقي في إطار التزاماتهم النّقدية.
بناء على ماسبق يمكننا القول، أنّ أهميةَ دراسةِ المنهجية النّقدية لإبراهيم عبد الرحمن، تنبعُ في الحقيقة مِن أهميةِ البحثِ في قضايا المنهج، لأنّ المنهجَ كان ولايزال مِن معالم قياس المدى الثَّقافي والنّقدي هذا من جهة، ومن جهة أخرى يُصنَّفُ إبراهيم عبد الرحمن في سلكِ النّقادِ التّأصيليين لا النّقادِ التَّطبيقيين -على ماهو معروف في تصنيف النّقاد- فإذا كان النّاقدُ التَّطبيقي يكتفي بدراسة الأعمال الأدبية مُفسِّرا إيّاها ومُناقشا لها وحَاكِما عليها، فإنّ النّاقدَ التَّأصِيليَّ يرتقي إلى أن يُصبحَ مشروعًا بعد أن يختار من الآثار الأدبية ما يمكن أن يرسم منهجا أو يثيرَ قضيةً أو يكشفَ عن فكرٍ نقدي متكامل، وأحسَبُ أنّ إبراهيم عبد الرحمن ممن مثّل الوِجهة التأصيلية بما طرحَهُ من آليةٍ وابتكرَ مِن تفسيراتٍ، فكان مَشروعُه بحقٍ مساهمة في إعادة قراءة التراث الشِّعري وإنارة إجرائية جمعت بين المختَلِفِ والمؤتَلِف.
شكلت هذه الأهمية مع عدم استوفاء الدّراسات النّقدية لهذه الشَّخصية، أهمَّ حافزٍ ودافع للكتابة عن هذا الناقد والتَّقرُّبِ منه أكثر، لإضاءته وبيانه والتعريف بمشروعه، خاصة وأنّه يُنير أحد أهمِّ مراتع الإبداع الأدبي في الثقافة العربية وهو النّص الشِّعري القديم بجِدّةٍ وجُرأة، فقد أثبتَ ارتباطَ الشِّعر الجاهلي بالفكر الدّيني القديم عند العرب، هذا الجانب الأسطوري الذي ظل مُبهما وغامضا طِيلةَ عُقودٍ عن الثقافة والنّقد العربي إلى غاية السَّبعينيات من القرن الماضي مع إبراهيم عبد الرحمن الذي يعدّ رائدا فيه، وبعده تزايدت الدّراسات التي أخذت تسير في هذا الاتجاه.
ومن هنا تركزت الإشكالية في هذا الموضوع عن محلِّ معرفة مشروع هذا النّاقد أمام أسئلة المناهج النّقدية، وأمام أسئلة التراث النّقدي والثقافي، وكذا مُحاولةِ سَبرِ مقترحاته المنهجية وتفسيراته القرائية، مع مدى استجابة النَّص الشِّعري القديم لها.
وعلى سبيل التفصيل يمكننا أن نطرح مجموعة مِن التَّساؤلات تضبطُ في مجملها إشكاليةَ الموضوع هي كالآتي: إلى أيِّ مدى استطاع إبراهيم عبد الرحمن أن يُزاوج بين الموروثِ والوافِدِ، على تشعب وكثرة اختلاف الآراء النّقدية والمنهجية فيهما؟ وهل كان فِعلاً المسوِّغُ الفنّي بالمعنى الذي طرحَهُ إبراهيم عبد الرحمن غَائبًا عن مناهج النِّقد الأدبي الحديث والمعاصر؟ ماهي المبادئ النّقدية التي استلهمها من التُّراث النّقدي ومن تلك المناهج، والتي سمَحت لمنهجه أن يغدوَ بعيدا عن التَّعَسُّفِ بعد أن سَمَحَ للنّص الشِّعري بالخروج من مَقَاسِ القِراءة الحدّية مع النَّظريات والمناهج، ولكن في إطار ترسيمته المنهجية؟ ما هو بديلُه المنهجي في قراءة القصيدة العربية القديمة؟ وإلى أيِّ مدى حقق التّكامُلَ فيه؟ وهل هو بمثلِ المنهج التَّكاملي المعروف في الوسط النّقدي العربي؟ هل تتمتَّعُ القصيدة العربية فعلا بوحدة دلالية كما قال إبراهيم عبد الرحمن؟ ماذا يقصد بتوتراتِ القصيدة؟ وما هو المدخل الذي يراهُ مُناسِبا لفهم القصيدة فَنِّيًا وموضوعيًا، وبتفكيكه يُتوصَّلُ إلى الدّلالة الميثولوجية التي دعا إليها؟ تُرى هل كان مُصيبا في القرائن التي استند إليها من القصيدة الجاهلية للقول باشتمالها على أبعاد أسطورية؟ ماهي القضايا التي أثارها إبراهيم عبد الرحمن تَبَعًا للدّرس الأسطوري؟ وإلى أيِّ مدى كان مصيبا في آرائه الجديد، خاصة في باب تحقيق الرواية والتدوين، والقضايا الثقافية الأخرى في حياة العرب الجاهلية، من الأمية والكتابة وغيرها؟ هل عرفَ العربُ حقا الأسطورة؟ ماهي المراجع أو المرجعية التي استقى منها إبراهيم عبد الرحمن مادّته في الدّرس الأسطوري، والتي أعطته المسوِّغَ للقول بالأسطورة في ثقافة العرب؟ كيف أدَّى منهج إبراهيم عبد الرحمن المقترح في تحليل الصُّور الشِّعرية إلى إثبات الملمح الأسطوري في الشِّعر الجاهلي ومنه إبطالُ القولِ بعدم بوجود الأثر الدّيني فيه؟ كيف يلتقي الشِّعر بالدّين والأسطورة؟ ماهي الاستفادة التي يمكن أن يجنيها الناقد العربي من الدّراسات الأسطورية؟ وكيف انتُقد من قبل معارضيه؟ ثم ماذا عن طبيعة نقد النّقد في دراساته، وماذا يمكن أن نستفيده منها؟.
كل هذه التساؤلات وغيرها حاول هذا البحث أن يضيئها ويبدي إجابات عنها قدر الإمكان، وأخيرا نتمثل قول عبد القاهر الجرجاني الذي أتعبني بعدما قرأته حيث يقول “اعلم أنَّك لا تَشفي الغُلَّةَ ولا تنتهي إلى ثَلَجِ اليقين حتى تَتَجَاوَزَ العلمَ بالشَّيءِ مُجمَلاً إلى العلمِ به مُفَصَّلاً…” فَأضحَيت لا أجد بعدَ ذلك مَفَرا إلا تمثُّل قولَ إليوت “..وإذا لم يكن بِإمكَانِنَا أن نكُونَ على صَوابٍ، فمن الأفضلِ أن نُغيِّرَ من وقتٍ إلى آخرَ طريقتنا في أن نكونَ على خَطأ. ما إذا كانَ للحَقِيقَةِ المطلَقَةِ وجودَ أمرٍ مَشكُوكٍ فيه ولم يُبَرهَن، لكنّ الأمرَ المؤكَّدَ أنّه ما من شيء أكثر فعَاليةً في إقصاءِ الخَطَأ سِوى خَطَأ جَدِيد”. فإن وُفِقنَا إلى بعضِ الصَّوابِ فمن توفيقِ الله عزوجل وما كان من خطأ فمن تقصيرنا وضعفنا.