تفصيل
- الصفحات : 174 صفحة،
- سنة الطباعة : 2025،
- الغلاف : مقوى،
- الطباعة : الأولى،
- لون الطباعة :أسود،
- الأبعاد : 24*17،
- ردمك : 978-9931-08-894-3.
وشّحني صديقي الأستاذ تقي الدّين بوكعبر بهذه المنزلة الّتي لا أظن أنّني جدير بها بعدُ، إذ طلب مني أنّ أقدّم له هاته الرّسالة الّتي أخرجها إلى النّور، والواقع أنّه لم أكن متهيّئًا ولا مرشّحًا لها، ولمن الجسارة وترجيح حسن الظّن أنّني استجبتُ وأقدمتُ على ذلك، بتجربة أقلّ، ويسعدني ذلك متمنيًّا أن أكون في مستوى ما ينتظره صديقي وجميع القرّاء.
والدّكتور تقي الدّين انبرى للكتابة المحليّة برقعة غريس وما حاذاها ـ وهو ابن عقر الرّاشديّة مدينة معسكرـ وحمل على عاتقه كبر هاته المسؤوليّة وهاته الأمانة وتجشّم أعباءها، وجرّد قلمه خدمة لتراث هاته المنطقة الزّاخرة بأعلامها وعلمائها، وكأنّه انتصب لإعادة كتابة تاريخها برؤية جديدة فاحصة ووعي حصيف يقظ ربطًا لحاضرها الواعد بماضيها الماجد، قاصدا العمل على إعادة تأويله لإظهار توافق جوهره مع القيّم الكونيّة الحديثة، وبثّ في بعضه روح الحركيّة والفاعليّة. وقد اقتنيتُ له ثلاث مؤلّفات من جملة مؤلّفاته، وهي “أبحاث وأراء في تاريخ معسكر، الفترة الحديثة 1519 ـ 1830م”، عن دار ألفادوك سنة 2020م، و”المجموع الميسّر لمدونّات الأنساب والتّراجم بفضاء الرّاشديّة معسكر”، عن دار السّادة المالكيّة سنة 2022م، و”نيل الأماني ونشر التّهاني في ترجمة الشّيخ مصطفى بن التّهامي البوعمراني”، عن دار فهرنهايت سنة 2022م، ويدخل الكتاب الّذي بين أيدينا في تكملة المساعي الحثيثة من أجل استظهار رجال الأمير الّذين بهم اشتدّ عضده وتوطّد سلطانه. اعتمد المحقّق تقيّ الدّين بوكعبر على مراجع عربيّة ووثائق أجنبيّة في عكوفه على خدمة هاته المخطوطة، وفي انكبابه على هذا العمل المجديّ، وعمل جادًّا على تخريج الآيات والأحاديث الواردة في نص المخطوط، وحوّل التّاريخ الهجري إلى التّاريخ الميلادي، وقسّم نص التّقييد إلى فقرات حسب مضمونها مع مراعاة جوهر المتن، وجعل لكلّ فقرة عنوانًا فرعيًّا تعميمًا للفائدة.
إنه مما لا يحتاج توضيحا أن نرى التّاريخ المحلّي رافدا إضافيا لكتابة التّاريخ في الزّمن المعاصر، يضيف إمكانيّة التّحرّي من بعض الوقائع وإبراز دور بعض الأعلام المحليّة الفاعلة في تلك الأحداث، وذلك من خلال توظيف الوثائق المحليّة والتّراث الشّعبي، ثمّ محاولة سدّ الثغرات وربط الحلقات عن طريق استنطاق الرّوايّة الشّفويّة ما لم تتناقض مع السّياق والمنحى العامّين، مع وجوب تجنّب إصدار الأحكام على الأحداث التّاريخيّة. لكنه عمل مضن وخطر، وخطورته تطرح إشكاليّات عديدة نظرًا لشكل اللّغة الّتي ينتهجها، إذ تتخلّلها غالبًا المبالغة والخرافة والذّاتيّة المفرطة، وأحيانًا تضارب النّصوص المسموعة والمكتوبة، مهمّة لابد أن يزمع إليها ويتجشّم استشكالاتها الأكاديمي الملّم بما دوّنته النّخبة من ثقافة عالمة قصد فكّ ما أنبهم من رموز، وتبيان حدود الحواجز الاصطلاحية بينها وبين الثّقافة الشّعبيّة.
لا تزال شخصيّة الأمير عبد القادر ومساره السّياسي والصّوفي وتراثه الأدبي يلهم الكتّاب والمؤلّفين على اختلاف مشاربهم في عديد الأجناس الأدبيّة والعلميّة، وفي الجهات السّت للكوكب ميدانًا غير محدود؛ وقد دلفت شهرته عتبة الكونيّة وأسهم في إضافة لبنة راسخة إلى صرح الحضارة الإنسانيّة، لا يرتاب فيها فدر ولا يجحدها إلّا ناكر. ولا يخفى علينا أنّ دراسة شخص الأمير يدفعنا إلى التّنقيب في حيثيّات تنشئته الأسريّة والاجتماعية وظروفه التّربويّة، وبيئته ومحيطه، الّتي أكّدت وجسّدت الانتماء لإحدى الهويّات العريقة الّتي تشكّل معالم هذا الوطن التّليد الولود والاعتزاز به، توسّلًا في الوقوف دون وسائط أو حجب على رصانة التّكوين العقليّ والنّضج النّفسيّ الّذي قيَّض اتّزان الأمير عبد القادر القيّادي البعيد عن كلّ غلوّ وتطرّف. فمناخات وعوامل احتضان عائلة الأمير بارزة في تجليّات متعدّدة، منها ما ألّفه هو شخصيًّا، ومنها ما دُوِّن عنه في حياته، ومنها ما كُتب عنه لاحقًا، واليوم نحن أمام عيّنة من عيّنات ما كتبَه أخوه الأكبر محمّد السّعيد، لنلمس عن كثب دائرة اهتمامات أفراد هذا البيت الخصيب إبّان تلك الفترة العصيبة في سياقاتها التّاريخيّة الّتي حلّت بالبلاد وأربكت الثّوابت والمرجعيّات والمِهاد، باعتبارها كتابات قلّما يتجرّد منها مؤلّفوها. فقلق الاستطلاع على كنه مثل هاته الكتابات وسبر أغوارها، مزهر نائع حاضرًا، ومثمر يانع لاحقًا، لمقاربته في تقديم الصّورة الّتي كان عليها المجتمع الجزائري قبل مخطّطات الطّمس، ومناشدًا تقليص الهوّات الصّارخة بين الأجيال بعد الاستقلال، متجاوزين بذلك القطيعة المفرزة، لإحلال هامات الجزائر مقاماتها العالميّة، في حقبة أولجت بعض المحسوبين على السّياسة في التّحامل على تشويه تاريخ الأمير قصدًا أو عن جهالة مُعتقدين الإنصاف والموضوعيّة.
رغم أنّه كُتبَ الكثير عن الأمير عبد القادر لا زلنا نجهل صميم أُسرته وسير رجاله، وما يؤسفنا كجزائريّين أنّنا بقينا نستمّد تاريخ أعلامنا الّتي عاشت شطرًا أو قضت ردحًا من الزّمن خارج البلاد، من مراجع خارجيّة، فنَبتر أو نُهشّم أو نَعتور بذلك تلك الفترة من مسارهم الّذي عاشه هؤلاء الأعلام بأرض الوطن قبل هجراتهم أو تهجيرهم، فنبخس بذلك منازلهم ونهدر حقوقهم ونزهد في فضل هذا الوطن المفدّى الّذي أنجبهم، ونقصي أنفسنا بتقصيرنا مشرّعين باب التّبعيّة لغيرنا على مصراعيه، وننتقص من ثقافتنا ما يثبت امتداد تعاقبها الموغل عبر الأحقاب، وتجذّرها في عمق الزّمان والمكان بما يعسر اختزاله ويستحيل إنكاره، ونُبدّد ما يعمّق انتماءنا ويعزّز فخرنا، باعتبار أنّ أمننا الثّقافي هو العاصم لنا من كلّ ذوبان أو شتات. وجاء هذا الكتاب ليرفع عنّا عوزنا باستحياء ويروي غليلنا، ويواري سوأتنا في هاته الفجوات، وليدفعنا قدمًا إلى المزيد من البحث في هذا المنحى.
يعتبر الشّيخ محمّد السّعيد الحلقة المعقودة بين والده الشّيخ محيي الدّين، وأخيه الأمير عبد القادر عائليًّا بحكم سنّه، ويمثّل أيضًا عروة الإيثاق بين المغرب والمشرق في إطار تواصل القادريّة بينهما على مدى الأحقاب المتعاقبة، زادته فضائل ومناقب، فصار محلّ أعيان الدّمشقيّين، تمامًا مثلما تأهّب أخوه الأمير لتقريب آصرة العلاقة بين شرق روحاني غائص في بلهنيّة مُتراكم مُستلَب متشاطر مُتذاك، وبين غرب مادي قوّي عدواني متوثّب للهيمنة، طّامح إلى التّربّع على عرش المركزيّة. ذلك الغرب الّذي طفق من حينها حابكًا هاجسه بتلك النّظرة المبنيّة على التّضاد مع الشّرق، لا على التّكامل أو التّعايش، والطّاعن -تأكيدا لمنحاه- في وِحدة العقل الإنساني.
ويبدو أنّ اهتمامات الشّيخ محمّد السّعيد كانت مركّزة على علوم اللّغة والحديث والكلام والتّفسير والفلك، بينما لم يكترث – كما ينبغي لسالك القادريّة – بعلوم التّصوف وفلسفته، وهو المتصـدّر لمشـيخة زاويّة أسلافه بعد وفاة والده، وقد قال فيه أخوه الأمير عبد القادر واصفًا إيّاه: “كان أخي السّعيد ـ رحمه الله ـ ينفرُ من الحقائق ومطالعة كتب القوم (الصّوفيّة)”. كما أشار الأمير نفسه في كتابه “المواقف” إلى الصّعوبة الّتي كان يلاقيها لدى مطالعته كتب القوم وكيف كان يستعصي عليه فهمها. وكان رجلًا مزواجًا مثل والده، حيث تزوّج من بنت سيّدي قويدر يحيى البغدادي شيخ العطّاف، وخلّف منها أربعة أولاد وهم: أحمد المجاهد، ومحمّد الصّادق ومحمّد المرتضى وعبد الباقي، كما تزوّج قبلها وبعدها أي في السّجن وبعد ذلك، وتذكر الوثائق الفرنسيّة أنّه فقَد في الأسر زوجة قد أنجب منها، كما خلّف مخطوطات كثيرة، لم تر النّور إلّا مؤخّرًا، وبشكل بطيء، ممّا عمّق من خمول ذكره، وعدم اشتهاره. فحقّ له أن ينال من الشّهرة ما هو أجدر بشخصه كمجاهد وسياسي وعالم وفقيه وصوفي. وهذا ليس بالغريب على عائلة الأمير الكريمة المنبت وامتداد إشعاعها الرّوحي وباع سلفها في تكوين الرّجال وتأليف الكتب، فنجد أخ الشّيخ محمّد السّعيد وهو الشّيخ أحمد (ت.1902م)، قد ألّف هو الآخر رسالة خرجت إلى النّور، وعرفه القرّاء، عنونها بــ: “الجنى المستطاب والزّبرجد المذاب”، وهي في الرّدّ على مَن إدّعى أنّ السّماع يحرّك القلب لربّ الأرباب، وكتاب في سيرة الأمير عنونه بـ:”نخبة ما تسرّ به النّواظر وأبهج ما يُسَطَّر في الدّفاتر في بيان توليّة ذي الكمال الظّاهر والنّسب الطّاهر سعادة الأمير السّيّد عبد القادر بـن محي الدّين في إقليم الجزائر”، وهو الأخ الأصغر للأمير الّذي أعان الشّيخ جمال الدّين القاسمي (1866م ـــ 1914م) في تدوين ترجمة الأمير، في مؤلّفه “تعطير المشام في محاسن دمشق الشّام”. علمًا بأنّ الشّيخ أحمد هذا لحداثة سنّه تربّى في حجر أخيه محمّد السّعيد وأخذ عنه، كونه كان رضيعًا حين فَقَدَ والده الشّيخ محيي الدّين.
إنّه مخطوط الشّيخ محمّد السّعيد، ونشرع بالتّعريف بمؤلِّفه، فهو أخ الأمير عبد القادر وبِكر الشّيخ محيي الدّين، من زوجته أوريدة بنت سيّدي الميلود، له خمسة من الإخوة، وهم: مصطفى، وعبد القادر (الأمير)، وحسين، وأبو بكر، وأحمد (أصغرهم). ولد بقريّة القيطنة على ضفّة “وادي الحمام” التّابعة لقبيلة الحشم بمنطقة “غريس” المتضمّنة لمدينة “معسكر” زمن الجزائر التّركيّة، وتعلّم بمسقط رأسه وبمعسكر ووهران، ونبغ في علوم عدّة. وقد ناب عـن والده الشّيخ محيي الدّين في القيام على شؤون زاويّتهم لمّا توجّه إلى المشرق في رحلته الحجيّة الّتي دامت قرابة ثلاث سنوات قبيل الغزو الفرنسي للبلاد، وخلَفه متصدّرًا مشيخة القادريّة بعد وفاته سنة 1833م، وبقيت زاويّتهم تُأتي أُكلها إلى أن قوَّض أُسُسها وخرَّب جدرانها واحتطب أجنّتها، الجنرال الفرنسي بيجو يوم 16 أكتوبر سنة 1841م.
قد انفرد الشّيخ العربي المشرفي (ت.1895م) في “طرس الأخبار” بخبر ترشيح الشّيخ محمّد السّعيد لأمر التّوليّة بقوله: “ألقوا جمرة الإمارة في حجر الحاج محيي الدّين، وهو ألقاها في حجر ولده الأكبر وهو السّعيد، وهو ألقاها في حجر أخيه عبد القادر. وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على مكانة الشّيخ محمّد السّعيد عند والده واشتمال شخصيّته لمؤهّلات ومقوّمات القيادة، في غير اغترار، من حسن التّدبير والتّخطيط، وقوّة التّأثير والإقناع، والمرونة في إدارة النّزاعات، وسلاسة التّواصل، ومهارات الابتكار. برزت في إنابته على تسيير شؤون الزّاويّة أثناء رحلة حجّ والده أو في توليّته إدارته لها بعد احتجاب والده والتحاقه بالرّفيق الأعلى، أو في مفاوضته ومعالجته لحملة أخيه الأمير، أثناء المقاومة، على ولد التّيجاني بعين ماضي سنة 1838م. فكان يمثّل الأنموذج الأسري لأولئك الّذين تخطبهم الدّنيا بالمغريات والمطامع والمناصب العاليّة فيصدّون عنها فرارًا، ويكبّون على إصلاح باطنهم، وسلّ حظّ الشّيطان وغيّ الهوى وشهوات النّفس منه.
قال القاسمي ـ رحمه الله ـ في “تعطير المشام في مآثر دمشق الشّام” عن الشّيخ محمّد السّعيد: ” هو العلّامة النّحوي اللّغوي المنطقي الأصولي الفرضي، كان صوفيًّا خاشعًا مربيًّا زاهدًا ورعًا، ذا صلابة في الدّين، متبّعًا للسّنّة، وقّافًا عند الحدود الشّرعيّة، وكان في بلاده صاحب عزّ وجاهٍ ورياسة وأبّهة عظيمة، حتّى بعثه أخوه حضرة الأمير عبد القادر سفيرًا إلى الدّولة المراكشيّة، واجتمع بسلطانها عبد الرّحمن ووزرائه”، وذلك في جانفي سنة 1838م. إذن الشّيخ محمّد السّعيد من رجال الدّولة الّتي تولّت مقاومة جيش الاستعمار، وقد جعل الأمير مجال البطحاء تحت نظر أخيه هذا بعد المبايعة، مواجهًا بذلك مدينتي مستغانم وآرزيو، وقد شهِد معه مشاهد الحرب وفقَدَ الشّيخ محمّد السّعيد ابنه أحمد في معركة خنق النّطاح الثّانيّة بوهران في شهر أوت سنة 1832م، فهَبَّ عمّه الأمير حينها مقدامًا غير آبهٍ، وانتشل جثّته من بين الصّفوف.
وقد ذكر محمّد باشا في التّحفة وبن عودة المزاري في طلوع سعد السّعود أنّ بعض حاشيّة الأمير أستأمنوا لأنفسهم جيش الاحتلال ليلة معركة وادي عجرود في ديسمبر سنة 1847م، ومنهم الشّيخ محمّد السّعيد، وقد يكون ذلك بوساطة محمّد بن خوية الزّمالي وأحمد بن حطّاب الدّايري القائمين على حراسة مدينة الغزوات تحت نظر الجنرال لامورسيار المعروف ببوهراوة ونائبه العقيد كوزان ـ مونتوبان. فاقتيد الشّيخ إلى قرية ابن ميرة من قرى مسيردة قرب تلمسان، ثمّ نقل أسيرًا إلى تلمسان، ثمّ سُجن مع أخويه مصطفى وحسين اللّذان استأمنا لأنفسهما من قبل من الجنرال لاموريسيار على أساس أن يتمَّ ترحليهما إلى المشرق، لكن كالعادة أخلف الفرنسيّون وعدهم وحبسوهم في تسالمت قرب وهران، وأُلحق بهما أخوهم الشّيخ محمّد السّعيد، ونُقِلوا جميعًا إلى منافي فرنسا يوم 1 أفريل سنة 1848م بمعزل عن السّفينة البخاريّة “لاسمودي” الّتي نقلت الأمير وحاشيّته المؤلفة من 97 شخصا، من وهران إلى مدينة تولون.
ثمّ نقل الأمير وإخوته وبعض المقربّين منه إلى سجن مدينة بـو، ومنها إلى سجن قلعة أُومبواز حيث ضيَّق عليهم الفرنسيّين أكثر فأكثر، فاشتغل الأسرى بمن فيهم الشّيخ محمّد السّعيد بعقد حلق العلم كقراءة صحيح البخاري وكتاب الشّفا للقاضي عيّاض على نيّة التّفريج، حينها عكف الشّيخ على تأليف بعض التّقييدات، واستمرّوا على ذلك إلى غايّة إطلاق سراحهم.
بعـد تدخّل الإمبراطور لويس نابليون الثّالث ومحاولته لردّ الاعتبار للأمير وفاءً للعهود المعقود عليها الّتي قطعها الفرنسيّون بإجلائه إلى المنفى الاختياري (عكّا أو الإسكندريّة) ، والّتي نكثوها غير مرّة، شرع في ترحيل إخوة الأمير (محمّد السّعيد وأخوه الأصغر أحمد، ومحمّد المرتضي ابن محمّد السّعيد) إلى عنّابة يوم 16 أوت سنة 1852م، كان ثلاثة أشهر قبل ترحيل الأمير إلى بورصة، وذلك حسب رأينا لجسّ نبض الجزائريين حيال الإفراج المحتمل للأمير، ولجعلهم كالمرهونين تحت قبضة أرباب دولتهم في حالة ثوران الأمير من جديد. ثمّ سمح لهم الفرنسيّون بالالتحاق بالأمير في الشّام سنة 1856م. بعـد أن استقرّ الشّيخ محمّد السّعيد ببلاد الشّام بصحبة أخيه وكلّ الأسرة الأميريّة وعدد كبير من المهاجرين الجزائريّين، تبوَّأ الشّيخ مكانة مرموقة في قلوب الشّاميّين علمائهم وعامّتهم يقول الشـّيخ الحصني في “كتاب منتخبات التّواريخ لدمشق”: “وكان محلّ اعتقاد وإعزاز علماء دمشق حين هاجر إليها”. وعمومًا كان الأمير يستشير أخاه محمّد السّعيد في أمور العائلة والسّياسة والجهاد، نُفي معه بفرنسا والتحق به في دمشق الفيحاء، الّتي عاش بها إلى توفي سنة 1278هـ ـ 1862م عن عمر 63 سنة، ودفن بسفح قاسيون في مقبرة ذي الكفل.
والآن أتعرّض إلى موضوع الكتاب ومضمونه باقتضاب، وقد فهرست المكتبة الوطنيّة الجزائريّة نسخة هذا المخطوط بالعنوان التّالي: “نبذة عن حياة عبد القادر وأسرته”، وذلك لتضمّنه ما يحيط بالأمير وأسرته ونسبه ومساره، والواقع أنّه أضاف لنا معلومات جديدة، ومنها الموقف الصّريح للشّيخ محيي الدّين من الوجود التّركي، وهو الموصوف عند غيره بمساندة المخزن في إخماد ثورة درقاوة. وأمّا النّسخة الأصليّة فهي في عداد المفقود، ما يتحتّم الحذر في مثل هذه الحالات، والمُلاحظ أنّه وقع للنّسخة الأصليّة ما وقع لمخطوطة الأمير المعنونة بـ “ذكرى العاقل وتنيه الغافل”، وأيضًا لمخطوطة ابنه محمّد بن الأمير المعنونة بـ “تحفة الزّائر في مآثر الأمير عبد القادر وأخبار الجزائر”. تناولت الرّسالة الّتي اختار لها الشّيخ محمّد السّعيد عنوان: “نبذة عن حياة الأمير عبد القادر وأسرته” حياة والده الشّيخ محيي الدّين ومبايعة ابنه عبد القادر، وحربه وسلمه مع جيش الاحتلال، ومسألة توقيفه للقتال… دوّنها على مرحلتين؛ وهو سجين بقصر أُومبواز بفرنسا، في غضون شهر شوّال من عام 1264ه الموافق لشهر سبتمبر سنة 1848م، وعلّق عليها لمّا أطلق سراح الأمير وانتقـل إلى بورسة، وفرضت عليه وعلى بقية إخوة الأمير الإقامة الجبريّة ببلدة عنّابة بالجزائر يوم 9 أوت 1852م حيث قال في متنها: “أطلق الله سراحنا مـن أرض افرانصه يوم الثّلاثاء الثّالث والعشرين من شوّال، ونزلنا بعنّابة ثالث ذي القعدة الحرام من عام ثمانيّة وستين وألف ومائتين”، ثمّ نقلها النّاسخ محمّد بن عبد الرّحمن بن مرسلي في 18 سبتمبر سنة 1849م، علمًا بأنّ عبد الرّحمن بن مرسلي كان سجينًا بمعيّتهم، وصمته الوثائق الفرنسيّة بطالب الشّيخ مصطفى بن التّهامي. وأخذت أحداث وحروب الأمير مع سلطان المغرب الأقصى حيّزًا كبيرًا من مجمل الرّسالة، ويبدو لنا ذلك نزولًا عند رغبة العسكريّين الفرنسيّين الّذين قد ألّحّوا عليه حيث تحدّد هدفهم زمن تقييد هذا في جمع المعلومات من أجل احتلال المغرب الأقصى، وبثّ العداوة بين الشّعبين لقطع الطّريق أمام أيّ تضامن قبَلي عبر الحدود أو مساندة داعمة من شأنها تعرقل مساعي التّوسّع الاستعماري الفرنسي في شمال إفريقيا. وتجنّب الخوض في ظروف المنفى وتقلّباتهم عبر السّجون الّتي عانى المحبوسون منها الويلات، وأخوه القائل: “انكسرت نفسي وضاقت عنّي الأرجاء وفقدتُ قلبي، وإذا المعرفة نكرة والأنس وحشة والمطايبة مشاغبة والمسامرة مناكرة، فكان نهاري ليلًا وليلي ويحًا وويلًا … وأي قرابة أردتها أُبْعِدْتُ بها، فلم يبق معي من أنواع الصِّلات إلّا الصّلاة، فكان هذا الابتلاء”، حيث فَقَدوا خمسة وعشرين فردًا منهم نتيجة الوضع الصّحّي الكارثي إلى جانب الرّطوبة الكاسحة والبرودة القاسيّة، ربما بايعاز مباشر أو نُسِخت من المتن، ونصادف كلامًا أكثر غرابة كونه أطرى معاملتهم، ربما في إطار ملاطفته لهم قصد التّعجيل بالإفراج والتّسريح، وقد ذكر: ” وفي أرغد عيش وأطيبه مـع عظيم الحرمة والتّوقير منهم له … لأنّهم من عاداتهم الوفاء بالعهد والعقد … وما نُقِل عنهم خِلاف ذلك”. وخلا المخطوط من ذكر مجالساته المؤنسة ومساجلاته الشّعريّة مع رفيقه بأسر أُومبواز الشّيخ محمّد الشّاذلي القسنطيني، ومحاورته لزوّاره من المثقّفين والقساوسة والمستشرقين الفرنسيّين حول الإنسان والدّين والفلسفة والمرأة والحريّة ونظام الحكم، وردّ انتقاداتهم وشبهاتهم إزاء الإسلام والمسلمين، مرسيًّا بذلك، الإرهاصات الأولى حول حوار الأديان وتقريب الثّقافات.
وقد تطرّق الشّيخ محمّد السّعيد إلى خلاف الأمير مع السّلطان العلوي، وحروبه مع ولديه الكبير مولاي محمّد والصّغير مولاي أحمد، بإسهاب مقارنة بالأبواب الأخرى، ومعركة وادي عجرود أواخر سنة 1847م حيث فقَد أخاه سيّدي أبي بكر، وسنّه وقتئذ تسعة عشر سنة، وأُسِر ابنه سيّدي محمّد الصّادق، وكان نظيره سنًّا. وهُلِك تحت الأمير أربعة جياد حينها، واستشهد فيها قائده الشّهير محمّد بن يحيى، حسب “تحفة الزّائر”. ويظهر ثناء الشّيخ على أخيه الأمير عبد القادر في السّرد بالإمام تارّة وبالمجاهد تارّة أخرى، ويزوّدنا عن الطّريقة القادريّة إذنها بالجزائر سندها وأورادها، وأضفى ترجمة خاصّة لسيّدي عبد القادر الجيلالي في المتن إفادة وتبرّكًا، وأقحم الموضوع بالأخبار والأشعار ونظرته الدّينيّة، ممّا جعل المتن حقلًا زاخرًا من النّاحيّتين الأدبيّة والفقهيّة، سيتناسل عنه ـ دون ريب ـ الكثير من المقاربات والأطاريح والآفاق في مختلف الأجناس لاحقًا.
وقد أرفق النّبذة برسالة فقهيّة تحمل عنوان :”ما جرى به العمل من أنّ الابن لا يجتمع مع أبيه أو صهره أو شيخه في وجود ولده أو زوجه”، تقع في أربع لوحات بدايّتها : ” وبعد أيّها الابن المبارك سلك الله بي وبك أحسن المناهج والمسالك أنّك سألتني عمّـا وجدنا عليه آباءنا مِن أنّ الابن لا يجتمع مع أبيه أو صهره ومن في معناهم كشيخه مع وجود ولده أو زوجته ولا يواجههم بما يستهجن ويستقبح لفظه ،،،”، وخُتمت بـ: ” وكتب مسلما على مَن يقف عليه أفقر الورى وخديم الفقراء محمّد السّعيد بن محيي الدّين كان الله له ولأحبّته آمين ربّنا تقبّل منّا إنّك أنت السّميع العليم وآخر دعوانا أنّ الحمد الله ربّ العالمين عام 1278 وكتب الفقير إلى رحمة مولاه أحمد بن محيي الدّين وفقه الله وهداه أمين”. إذن فرغ منها سنة 1278ه الموافق لسنة 1861م. صرّح الشّيخ محمّد السّعيد في بداية هاته الرّسالة أنّه ألّفها إجابة فقهيّة على سؤال وصلَه مـن شخص من معارفه أو طلّابه دون أن يفصح عن اسمه، يسأله فيه عن حُكم جلوس الابن مع أبيه أو قرابته أو شيخه مع وجود زوجه أو ابنه، كون أحد الطّلّاب اعترض على هذا الفعـل واصفًا إيّاه بالبدعة، والقضيّة عرفيّة اجتماعيّة. وأضاف الشّيخ هذه قضيّة كان معمول بها إلى وقت قريب عندنا في بلدة معسكر. والظّاهرة عشتُها شخصيًّا في الوسط العائلي بعد الاستقلال، وكانت متوارثة على سبيل الحياء، واندثرث الآن، والنّاس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم. وعوّل الشّيخ في تعليل الجواب على مستندات نصّيّة قرآنيّة وحديثيّة وفقهيّة عديدة، ثمّ عزّز منحاه بدعائم تاريخيّة، وانتهى ببتّه في الأمر ـ مترفّعًا عن كلمة إفتاء ـ أنّ فعل الأباء والأجداد هو عين الصّواب وهـو الحقّ، وهو الّذي يذكر أخاه الأمير بلفظة التّنويه “سيّدي” كناية عن غاية التّعظيم على الرّغم من أنّه أصغر منه سنًّا، وأيضًا إخوته سيّدي أبي بكر وسيّدي مصطفى وسيّدي الحسين، وحتّى ابنه بسيّدي محمّد الصّادق وابن آخيه بسيّدي محمّد، كما له رسالة أخرى تدخل في هذا الباب عنونها ب”رسالة في الحياء والحياء خير كلّه وأنّه سنّة متّبعة”.
باريس، يوم 6 ديسمبر 2023م.
رريب الله حاج أحمد.