تفصيل
- الصفحات : 350 صفحة،
- سنة الطباعة : 2022،
- الغلاف : غلاف مقوى،
- الطباعة : الأولى،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-398-6.
لقد شهد النقد الأدبي المعاصر في مظانّه الغربية ثورةً معرفية، وانفجارا منهجيا، غير معهود في مسيرة النقد الأدبي، وذلك بعد أن استثمر النقاد المنظرون مكتسبات الدرس اللساني، الذي شكل منعرجا حاسما في تاريخ الدراسات النصية، وذلك من منطلق البؤرة المعرفية التي مؤدّاها “دراسة الظاهرة دراسة آنية محايثة”، وقد انعكس هذا التوجّه المعرفي الجديد على الرؤية النقدية التي باتت تقضي بضرورة الانغماس في تقصي الأبعاد النصية؛ التركيبية والدلالية والأسلوبية، بمعزل عن المؤثرات الخارجية والمرجعية، والتي كانت ركيزة المناهج السياقية، هذه الأخيرة التي استنفدت طاقتها خارج النصوص الأدبية، ما يعني أنّ الممارسة النقدية صارت مُنبنية على تحليل الظواهر عموديا -وبأدوات منهجية متسمة بالدقة والصرامة- بعد أن كان ذلك التقصي محكوما بالمنحى الأفقي/السياقي وبظروف الكتابة.
وقد تمخض عن هذا الوعي المعرفي الجديد اجتراح مناهج نقدية كثيرة وبوتيرة متسارعة، إذ ما إن يتأسس منهج نقدي حتى ينهض على أنقاضه منهج آخر، إما بالإضافة والتفاعل، أو بالردّة والتجاوز. وبذلك تكاثرت النظريات النقدية، وتفاوتت الرؤى المعرفية، وتعددت الأدوات الاجرائية، وكلٌّ يقضي بكفاءته في توفير الضوابط العلمية والموضوعية التي تؤطر عملية التحليل، فانبثق عن ذلك إشكاليات منهجية كبرى، غدا معها الخطاب النقديّ المعاصر خطابا إشكاليا بامتياز.
هذا، وقد انسحب كثير من تلك الإشكاليات النقدية الغربية على النقد العربي، نتيجة ارتهانية هذا الأخير بمنجزات الآخر النظرية والمنهجية، بعد انسداد الفكر النقدي العربي جرّاء انعدام نظرية نقدية عربية حديثة، وعدم تثوير التراث وتفعيله بما يأتلف مع المعرفة المعاصرة، وبهذا فإنّ إشكالية المنهج في النقد العربي إشكالية معقّدة ومضاعفة؛ بعضها منتقل مع النظريات والمناهج الغربية، وبعضها الآخر منبثق عن الخصوصية العربية وطبيعة التلقي؛ إذا ما نظرنا إلى التباينات الحضارية، والثقافية، والفكرية، والعقدية، بين البيئة العربية والغربية. وعموما فإنّ النقد الغربي بقدر ما أولج النقد العربي في إشكاليات مكينة، بقدر ما أغنى رؤاه وأثرى أدواته، وكلّ ذلك من إفرازات الحداثة والحراك المعرفي والنقدي في المظان الغربية.
أمام هذا الحراك النقدي الغربي، وما استرفده من كشوف علمية ومنهجية، وما وفره من آليات إجرائية دقيقة وصارمة، وما حمله من مصطلحات نقدية، لم يكن للناقد الجزائري -على غرار النقاد العرب- إلا أن ينخرط في ذلك الحراك النقدي، ولم يتم له ذلك إلا باحتذاء المكتسبات المنهجية الحداثية، وهو في ذلك تحدوه الرغبة الشديدة في سدّ الفراغ، وتجديد الرؤية والمنهج معا، وتجاوز فجاجة الانطباعية وعقم المناهج السياقية وإزالة التكلس الذي أصاب المنظومة النقدية العربية، والجزائرية واحدة منها بطبيعة الحال.
وقد أولجه ذلك المسعى مضمارا يعجّ بالمعضلات والإشكاليات والسجالات، بعضها ورثه عن الخطاب النقدي الغربي، وبعضها الآخر متمحض لطبيعة التلقي وخصوصية البيئة الثقافية وخصوصية النص الفنية والمرجعية، ومن ثم طفح خطابه بإشكاليات متعددة، من قبيل: إشكالية المرجعية الغربية للمنهج وغياب منهج محلي أصيل، وجدل التراث والحداثة، وإشكالية الميكانيكية المنهجية ومراعاة الخصوصية النصية، وإشكالية النسق والمرجعية السياقية، وإشكالية الحكم النقدي، وإشكالية التركيب المنهجي وحصرية المنهج، فضلا عن إشكالية المصطلح النقدي، وكلُّ أولئك يؤول إلى الإشكالية المحورية: “إشكالية المنهج”.
ركوحا إلى ما سلف، كانت الحاجة إلى بحث يتقصى جوانب إشكالية المنهج في سياق التلقي النقدي العربي، وتحديدا ضمن مشاريع نقدية بعينها هي مشاريع النقّاد الجزائريين: عبد الحميد بورايو، عبد الملك مرتاض، رشيد بن مالك، وذلك تلافيا للوقوع في فخ التعميم ومطبّ التلفيق.
وانتقاءُ هؤلاء الثلاثة عينةً دون سواهم كان لاعتبارات، نذكر منها:
وعليه سعى هذا العمل إلى فحص ما انتهت إليه منجزات هؤلاء النقاد الثلاثة، لتسليط الضوء على إشكالية المنهج في سياق التلقي العربي عموما والجزائري خصوصا، من حيث الرؤية والتمثّل المنهجي، وطبيعة الممارسة النقدية، وكيفية التعامل مع المنهج بآلياته ومصطلحاته.
انطوت إشكالية دراستنا على جملة من التساؤلات المتضافرة، أهما: ما أسباب تخلّق إشكالية المنهج في سياق التلقي؟ وما هي تجلياتها؟ ما مدى وعي الناقد العربي، وتحديدا النماذج المختارة، بانطواء المناهج الغربية على عوالق معرفية وفلسفية تؤول إلى خصوصية البيئة الثقافية الغربية ؟ هل كان انفتاح النقد العربي/الجزائري على الحداثة الغربية وإفرازاتها بالانتقال التدريجي أم بالقطيعة المعرفية؟ هل وقع الناقد العربي/الجزائري تحت صدمة الحداثة؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب فما تأثير ذلك في قناعاته ورؤاه؟ ما مدى استجابة النص العربي للمنهج الغربي؟ ما موقف النقاد موضوع الدراسة من التراث والحداثة؟ وعلى أيهما تأسست مشاريعهم؟ هل كانت ممارساتهم التطبيقية مؤسسة على وعي منهجي؟ كيف كان موقفهم من المرجعية السياقية للنص؟ هل تمت مراعاة خصوصية النص الفنية والمرجعية من قِبلهم أم أخضعوا النص لسلطة المنهج وصرامته، فكانت تحليلاتهم ميكانيكية؟ هل قامت مقارباتهم على التركيب المنهجي أم على حصرية المنهج؟ ما موقفهم من أحكام القيمة؟ كيف تعاملوا مع إشكالية المصطلح النقدي؟ وهل كان نقلهم للمصطلح قائما على الاجتهاد الفردي أم على التنسيق الجماعي؟
هي أسئلة سعينا للإجابة عنها من خلال مفاصل البحث، وقد توخينا الموضوعية قدر الإمكان، خاصة ونحن نعالج موضوعا جدليا وإشكاليا في أساسه، لأنّ كل رأي مقطوع به من غير أدلة يعدّ ضربا من المجازفة المعرفية التي تقذف بالقضية المعالجة في غيابات المصادرة غير المقبولة أكاديميا على الأقل.
بما أنّ دراستنا متمحضة لنقد النقد؛ بما هو نشاط معرفي يتقصى أسس الخطاب ومرجعياته وخلفياته، ويتفحص طبيعة الممارسة المنهجية ومدى توافق الآليات المنهجية مع أصولها النظرية، ومدى استجابة النص للمنهج، ومدى تمثّل الناقد لمنظومة المنهج… فإنّ المنهج الذي اعتمدناه أساسا هو المنهج الاستقرائي الوصفي، إذ طبيعة البحث تقتضي استقراء المدونة النقدية، وتجلية مستويات الخطاب، وتوصيف طبيعة الممارسة المنهجية، غير أنّنا استعنّا بالمنهج التاريخي في رصد ارتحالات الرؤية والمنهج في النقد الجزائري، كما احتجنا، في بعض الحالات، إلى المقارنة -كإجراء منهجي- بين ناقد وآخر، وبين فضاء إنتاج المنهج أو النظرية وفضاء التلقي.
تأسيسا على ما سلف، انبنت الدراسة على خمسة فصول مصدَّرة بمقدمة ومُردَفة بخاتمة؛ حيث كان الفصل الأول بمثابة مسح نظري، جاء تحت عنونا (إشكالية المنهج؛ الحد المفهومي وتجليات الإشكالية في سياق التلقي) تناولنا من خلاله مفهوم المنهج والإشكالية، ووقفنا على الموقف النقدي العربي من إفرازات الحداثة الغربية، وبينّا أبرز الإشكاليات المنهجية التي طوّقت النقد العربي.
أمّا الفصل الثاني فعنونّاه: (الرؤية والمنهج في النقد الجزائري، التحولات والإشكاليات) ومن خلاله وقفنا عند التحولات الكبرى التي وسمت المسار النقدي الجزائري على مستوى الرؤية والمنهج، وذلك إيمانا منّا بأن الحركة النقدية بحالاتها وتحولاتها مؤسسة على التراكمية لا على القطيعة، ومن ثم فلا سبيل لفهم وضعية نقدية متقدمة بمعزل عن الوضعية السابقة لها، وهذا ما حدا بنا إلى تقصّي الحركة النقدية الجزائرية من زاويتي الرؤية والمنهج، ومفصلة هذه الحركة إلى مفاصلَ أو مراحل كبرى؛ أولاها: مرحلة النقد الصحفي التي شهدت مرحلتين؛ مرحلة عرفت فيها غياب الرؤية والمنهج معا، ثم تلتها مرحلة عرفت فيها حضور الرؤية وغياب المنهج. وثانيها: مرحلة النقد السياقي، وهي المرحلة التي شهد فيها النقدُ الجزائري الممارسةَ المنهجية، حيث تجلت ممارسات نقدية استندت إلى المناهج السياقية، كالمنهج التاريخي والاجتماعي والانطباعي والنفساني بدرجة أقل، وقد ظهرت في هذه المرحلة ممارسات تنزع إلى المنهج الفني، والذي كان مؤذنا بالتحول من السياق إلى النسق. وثالثها: مرحلة النقد النسقي، ومن خلالها رصدنا كيفية انفتاح النقد الجزائري على الحداثة النقدية الغربية، وأهم المناهج النسقية التي عني بها نقادنا، وأسئلة المنهج التي أثيرت في هذا السياق.
وخصصنا الفصل الثالث ل (إشكالية المنهج عند عبد الحميد بورايو) ومن خلاله تناولنا محددات المشروع النقدي لدى بورايو ورهانات المنهج فيه، كما تطرقنا لإشكالية رواسب النقد السوسيولوجي في تطبيقاته البنيوية المحايثة على نصوص السرد الشعبي، ووقفنا على قضية التركيب المنهجي وإشكالية التحديد، وبعدها إشكالية المصطلح النقدي، ثم دلفنا إلى خصوصية التحليل النقدي عند بورايو، وكيفية تطويع الأدوات المنهجية ومراعاة خصوصية النص المدروس.
ووقفنا الفصل الرابع ل (إشكالية المنهج عند عبد الملك مرتاض) وعرضنا فيه لمستويات الخطاب النقدي عند مرتاض، وموقفه من الحداثة والتراث، كما تناولنا قضية القراءة المنهجية ووظيفتها ولغتها، لننتقل بعدها إلى مسألة محورية في ممارسات مرتاض، وهي: استراتيجية اللامنهج والتركيب المنهجي، ثم دلفنا إلى التحليل المستوياتي لديه، وتساءلنا عمّا إذا كان صنيعه اصطناعَ منهج أم طريقة، لنختم الفصل بإشكالية المصطلح لدنه.
وقصرنا الفصل الخامس ل (إشكالية المنهج عند رشيد بن مالك) حيث تناولنا في المبحث الأول مستويات الخطاب النقدي لدى بن مالك، وأعقبناه بمبحث عنوانه: ممكنات النص ومحدودية النموذج، وختمنا الفصل بالحديث عن صرامة المنهج وميكانيكية الإجراء من خلال ممارسة الناقد.
وكانت الخاتمة حوصلةً لما انتهى إليه البحث من نتائج.
إنّ صعوبة هذه الدراسة متأتية من سعة المدونة النقدية التي اشتغلنا عليها، والمتعلقة بالثلاثة النقاد (بورايو، مرتاض، وبن مالك) إذ بلغت كتبهم التي اعتمدنا عليها في هذا البحث زهاء ستين كتابا (نظريا وتطبيقيا وترجمة) ناهيك عن تشعّب مشاريعهم النقدية، وتنوع مرجعياتها، وامتدادها الزمني نسبيا، والحق أنّ كل هذا من صميم البحث العلمي؛ إذ الصعوبة ركن ركين في أي بحث يروم الوصول إلى الهدف المنشود.
وختاما، فإنّي أتوجه بجزيل شكري، وجميل امتناني لأساتذة كان لهم فضل كبير في اكتمال هذه الدراسة، أخصّ بالذكر منهم الأستاذَين الصديقين: أمحمد عزوي واليامين بن تومي، وشكري موصول للنقّاد موضوع الدراسة (عبد الملك مرتاض، وعبد الحميد بورايو، ورشيد بن مالك) حيث خصوني بوقت حاورتهم فيه، وأفادوني بما احتجته في بحثي…
وأخيرا، فهذه دراسة بذلت فيها ما بوسعي بغية تحقيق القصد والمبتغى، فإن وُفّقت في عملي فبما فضل من الله تعالى، وإن كنت ممّن سار ولم يصل، فحسبي المحاولة. وعلى الله قصد السبيل.