تفصيل
- الصفحات : 246 صفحة،
- سنة الطباعة : 2021،
- الغلاف : غلاف مقوى ،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-068-8.
تخللت تكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة جلّ الأنشطة الإنسانية في المجتمعات المعاصرة، حتى أنه لم يعد بالإمكان أن نتخيل نشاطا من الأنشطة أو مجالا من المجالات من دون أن تسجل هذه التكنولوجيا حضورها فيه على جميع المستويات أو في بعضها على أقل تقدير؛ فقد أصبحت من المسلمات التي تقوم عليها المؤسسات الحديثة بمختلف أنواعها واهتماماتها، ذلك لأنها صارت من الركائز التي تضمن لها البقاء والاستمرارية في ساحة المنافسة، مع ما يعنيه ذلك من لزوم التأهب الدائم لملاحقة مستجداتها التي لا تهدأ. والأمر نفسه ينطبق على المؤسسات الإعلامية التقليدية أين صار لزاما عليها الاستفادة الدائمة مما تتيحه هذه التكنولوجيا بغية إرضاء جماهيرها وضمان بقائها ضمن المنافسة المحتدمة بينها. أما بالنسبة للأفراد، فقد أصبحت تكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة جزء لا يتجزأ من يومياتهم، تصاحبهم في كل زمان ومكان؛ تشاركهم ممارساتهم الروتينية وتسجل حضورها في مختلف الفضاءات التي يعايشونها، وتُسهم إلى حد كبير في بناء علاقاتهم مع بعضهم البعض واستمرارها.
وتأتي الانترنت على رأس هذه التكنولوجيا كوسيلة ثورية شهدت تطورا ونموا متسارعين لم تعرفهما أية وسيلة اتصالية أخرى، إن كان ذلك في الجانب الفني والتقني، أو كان على مستوى المحتوى، أو عدد المستخدمين الذين تعدى عددهم 4.6 مليار مستخدم حسب آخر الإحصاءات (ماي 2020)([1]). فالانترنت التي تخلّت عن طبيعتها العسكرية منذ بداية التسعينات من القرن العشرين، لم تتوقف عن التجدد والإبهار في ما تتيحه من خدمات وتطبيقات متنوعة ومتعددة تجعل من عملية الإبحار في عوالمها أمرا أكثر جاذبية وسهولة، ومن التحكم فيها أكثر بساطة وليونة. إنها لم تهدأ يوما من أن تجعل التصفح تجربة متميزة وفريدة؛ الأمر الذي جعلها تتسيد المشهد التواصلي المعاصر.
وكما كانت العادة في التكنولوجيات السابقة المؤثرة في صياغة المجتمع الإنساني، حين ينصرف اهتمام الباحثين في البداية إلى جوانبها الفنية والتقنية، والتي سرعان ما تتوارى لتبرز جوانبها الاجتماعية والثقافية. كان من الطبيعي أن تكون الانترنت أسرع مما سبقها من وسائل وتكنولوجيا في إبعاد الوجه التقني لتكشف عن مغزاها الثقافي بوصفها ساحة ثقافية في المقام الأول([2])، فبجانب كونها بنية تحتية لصناعة الثقافة؛ فهي تتعامل مع جميع عناصر المنظومة الثقافية وأبعادها؛ الاجتماعية، التواصلية، النفسية، المعرفية والعلمية، السياسية والسياحية والصحية، وحتى الترفيهية.. ومثل المنظومة الثقافية التقليدية تماما، تتخللها بعض جوانب الخلل الوظيفي الذي ينتج عن سوء استخدامها من طرف البعض مما ساهم في انتشار جرائم وسلوكات سلبية لا تقل خطورة عن مثيلتها في الواقع الحقيقي.
إذن؛ لا يمكننا أن ننظر إلى الانترنت إلا وقد تجلت أمامنا طبيعتها الثقافية وإن كان ذلك من خلال أنماط وسمات جديدة فرضتها البيئة الجديدة التي أتاحتها الانترنت نفسها، وهي وإن تعددت تسمياتها بين: الفضاء الالكتروني أو السيبرنيطيقي أو الافتراضي الخ، إلا أن المتفق عليه هو أنها أنشأت فضاء جديدا للتفاعل، هذا التفاعل
أنشأ بدوره ممارسات جديدة أطلق عليها البعض اسم الثقافة الالكترونية([3])؛ وهي قد تحيل إلى مجموع القيم والأخلاقيات والممارسات والتفاعلات والثقافات الفرعية أو المضادة التي تتمثل في الشبكة، كما قد تحيل إلى كل أشكال الاتصال بواسطة الانترنت وبالتفاعلات الشبكية بأشكال جديدة من اللغة ومن الرموز ومن الطقوس ومن الأعراف والقيم والقوانين بالاظافة إلى ذلك فإن الثقافة الالكترونية لها علاقة وطيدة مع مفهومي “القرية الالكترونية” و”المجتمع السيبرنيطيقي”.
هذا الواقع صار أكثر تجليا ووضوحا مع ظهور وانتشار ما صار يعرف في الأوساط الأكاديمية بالإعلام الجديد القائم على منصات الويب 2.0، الذي أرّخ لبروز الجيل الثاني من الويب بعد الثورة التي أحدثها على مستوى صناعة المحتوى الالكتروني وعملية إنتاج مواده وطريقة التفاعل معها؛ وفتح الباب واسعا لإعادة النظر في كثير من المفاهيم التقليدية، استنادا إلى سمات البيئة الجديدة التي يوفرها للمستخدمين مع إتاحته لآليات غير مسبوقة في التواصل وتكوين جماعات ترقى إلى أن تصبح “مجتمعات افتراضية“ موازية للمجتمعات التقليدية، لها القدرة على إنتاج خطابات ناقدة، والكشف عن الهامشي والمسكوت عنه؛ والقدرة على التعبير عن الاهتمامات الخاصة لأفرادها الذين أصبحوا في ظل شبكات التواصل الاجتماعي أكثر تحررا من القيود بأبعادها المختلفة، وهو ما أنتج عادات وأنماط جديدة لثقافة جديدة تتميز بأنها تمزج بين الواقع والخيال، بين الهوية الحقيقية والافتراضية. هذهالأخيرة التي وإن كانت تتأسس على هوية أصلية موجودة قبلا في الواقع الحقيقي (على اعتبار أن الأفراد الذي ينتمون إلى مجتمع افتراضي ما، لم يكن ليتسنى لهم فعل ذلك لولا اشتراكهم القبلي في نسق ثقافي واحد أو متشابه) إلا أنها تتفرد بمنح الفرد مجموعة من صفات مرنة وخصائص غير مسبوقة، في واقع افتراضي يرتكز بدوره على أسس قد تكون شديدة الاختلاف مع الواقع الحقيقي.
إننا أمام حقيقة لا مراء فيها وهي استحواذ هذه الوسيلة على جزء كبير من وقت الفرد واهتمامه من حيث أنها صارت لا تغيب عن كثير من عاداته وممارساته الثقافية وتتدخل في رسم نمط معيشته وتساهم في طريقة تفكيره وتواصله مع الآخرين. ولا شك أن هذه الوسيلة المتجددة على الدوام قد ساهمت في تقريب المسافات وإلغائها، وفي اختزال الوقت وتكثيف الأحاسيس إلى الحد الذي قد يقلب حياة البعض رأسا على عقب ويدخله في عوالم افتراضية جديدة تماما وجذابة بطريقة ليس من السهولة رفض الانخراط فيها.
في الجانب المقابل، اجتهد الباحثون والمهتمون بمختلف تخصصاتهم وانتماءاتهم في دراسة الانترنت ومختلف تجلياتها، مستندين في ذلك إلى أطر نظرية ومنهجيات مختلفة؛ بعضها امتداد للممارسات البحثية التقليدية وبعضها حاول التكيف مع الواقع الجديد بالاستناد إلى تحديثات تعرفها النظريات القديمة، بينما ينادي طرف ثالث بالخروج من التفكير السابق والتجريب في رؤى فكرية ونظريات اتصالية جديدة تماما تختص بدراسة تكنولوجيا الاتصال الحديثة والانترنت وتحاول مواكبة تطورها المتسارع بتقديم تفسيرات ملائمة. ومع تعدد جوانب اهتمام الباحثين بالانترنت تبقى التأثيرات التي تُحدثها على المستوى الثقافي من بين أهم المشكلات المتجددة التي تستدعي بجاذبيةالتقصي عنها والبحث فيها.
في هذا السياق يأتي هذا الكتاب ليقدم نظرة بنائية وظيفية شاملة للانترنت كمنظومة تقنية شهدت تطورا تاريخيا متسارعا، ثم كمنظومة ثقافية متكاملة بما يتخللها من قيم وممارسات وخلل وظيفي كذلك. وقد تم تقسيم الكتاب بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة، إلى ثلاثة فصول موزعة كما يلي:
الفصل الأول؛ في هذا الفصل تم التطرق إلى الانترنت كمنظومة تقنية، حيث استعرضنا تعريف الانترنت وخصائصها الكثيرة والمتنوعة، ثم قمنا بتقسيم مراحل تطورها تاريخيا وتطور خدماتها تقنيا إلى ثلاث مراحل أساسية (حين كانت الانترنت ذات طابع عسكري، ثم ذات صارت ذات طابع تجاري، ثم أخيرا مرحلة ظهور الويب 2.0) مع التفصيل في التعريف بالخدمات والتطبيقات التي ظهرت في كل مرحلة. أما في الجزء الأخير من هذا الفصل فقد تمت الإشارة فيه إلى تطور أعداد مستخدمي الانترنت في مختلف بقاع العالم والعالم العربي والجزائر بشكل خاص.
الفصل الثاني؛ بعد بيان البعد التقني للانترنت، تم تخصيص هذا الفصل للحديث عن الانترنت كمنظومة ثقافية متكاملة، حيث تم التفصيل في أبعادها الثقافية المتعددة ومناقشة مختلف مظاهرها وتجلياتها، إن كان ذلك على مستوى الهوية،أو على مستوى البعد التواصلي والاجتماعي، أو العبد التعليمي والمعرفي أو باقي الأبعاد الأخرى: السياسية والتجارية والترفيهية والدينية واللغوية، وحتى السياحية والصحية فضلا عن التحديات الأمنية، وما تقدمه الانترنت من خدمات مهمة في هذا المجال.
الفصل الثالث؛ وتم التطرق فيه إلى جوانب الخلل الوظيفي الذي يعتري الانترنت كمنظومة ثقافية، حيث حاول الباحث الإلمام بها من خلال مجموعة نقاط هي: الانترنت كمنتجة لهويات افتراضية شبحية،جرائم الأمن المعلوماتي عبر الانترنت، الإباحية الجنسية عبر الانترنت، صناعة وتسويق الممنوعات عبر الانترنت، الإرهاب (الالكتروني) عبر الانترنت، الحرب عبر الانترنت، الإدمان على استخدام الانترنت وآثاره النفسية، الانترنت كمنتجة للصراع الثقافي الاجتماعي، فقدان الخصوصية. وبعد استعراض مظاهر الخلل الوظيفي، تم تقديم مجموعة من الطرق لمعالجة هذا الخلل الوظيفي مثل إصدار تشريعات والعمل على ترشيد استخدام الانترنت في المجتمع، تقصي أثر الشبكات غير القانونية عبر الانترنت، بالإضافة إلى مجموعة من الأساليب لحماية المعلومات وعلاج الإدمان على الانترنت.
وفي الأخير نحمد الله ونسأله أن يحظى هذا العمل بالقبول الحسن.
[1]– وذلك حسب موقع تتبع احصاءات الانترنت على الرابط التالي:
https://www.internetworldstats.com/stats.htm (4/5/2020)
[2]– نبيل علي: رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، سلسلة عالم المعرفة (276)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2001، ص124.
[3] – للتعمق أكثر حول مفهومالثقافة الالكترونية، يمكن الرجوع مثلا إلى الكتاب:
– Glen Creeber, Royston Martin :Digital cultures (Understanding New Media), McGraw-Hill Education, New York, 2009.