تفصيل

  • الصفحات : 284 صفحة،
  • سنة الطباعة : 2025،
  • الغلاف : مقوى،
  • الطباعة : الأولى،
  • لون الطباعة :أسود،
  • الأبعاد : 24*17،
  • ردمك : 978-9931-08-994-0.

مقدمة :

يحتاج علم التاريخ إلى مناهج بحثية، تتبدل وتتشكل وفق تطورات ابستيمولوجيا العلوم، لذلك تصطف وراء هذه الورقة البحثية سؤال الكتابة التي تصبو إلى تشكيل قطعة فنية أم هدفها التأسيس لكتابية علمية ؟ وهو ما يجعل من الوعاء القلمي عند هذا المطب تتجاذبه تعالقات الشاعري والواقعي، الرخو والصلب، المستنبط والمكيف، المستهلك والمستحدث، وغيرها من الأزواج التي تسوقنا إلى صورولوجيا (Imagologie) الكتابة التاريخية التي قد تتشكل في لوحة ” مفزعة ” ملمحها السردية والقصصية، من إنجاز هواة بلا تأهيل أو كتاب بلا تكوين، عندها قد تتشابك الخلفيات والنوايا فيحيل بعضهم إلى الآخر، ويعتمد هؤلاء على أولئك، فتحبك توهمات أسطورية، قد تتسلل كحقائق إذا توافرت لها البيئة، وتزحف إلى مخيال الأجيال ومدارك الأمة، في الوقت الذي يعد فيه التاريخ صناعة، وقمة وأفق، وبينية، وبين هذين التمظهرين المتناقضين سنحاول الخوض في إشكالية التاريخ بين السردية والقيمية.

من الموسوعية إلى التخصص:

اصطف علم التاريخ في أحد مراحله ضمن المعارف الموسوعية، التي كانت تعني النزعة إلى الجمع النسقي لعديد المعارف في مختلف الميادين، كمرحلة ممتدةشهدها تطور الفكر الإنساني يطبعهاتمكن فرد واحد يسمى العالم أو الفيلسوف أو الحكيم أو العلامة (Polymathe) من “السيطرة” على مجموعة من علوم زمانه، لذلك يمكن اعتبار أرسطو من أوائل الموسوعيين، كون الفيلسوف أشير إليه بالإنسان الذي يمتلك ناصية العلوم، ولقد سار الفلاسفة على هذا المنوال، حتى بدايات انفصال العلوم عن الفلسفة كعلم أم، وحصولها على استقلالية نسبية. في الوقت الذي كانت فيه الموسوعية أول من تملك  فضيلة التوحيد الفلسفي للعلوم[1].

لكن يبدو أن التراكمات المعرفية وتطور النشاط الصناعي عقب الثورة الصناعية، إلى جانب ظهور  الجامعات كمؤسسات موكول إليها إنتاج المعرفة العلمية وتطوريها ونشرها في الأوساط الاجتماعية- إلى جانب المحاولات العديدة لأجل إخضاع التخصصات ضمن المسار العام للدراسات والأبحاث الجامعية، كلها عوامل وغيرها، أدت إلى انهيار الموسوعية وظهور التخصصات العلمية  Disciplines scientifiques))  التي هي في جوهرها مجموع العلاقات بين موضوعات وأشخاص، الذين يجعلون من خصوصية ميدان معرفي برنامج بحث، بعدما يجري تقطيع الموضوعات الواقعية إلى تخصصات، لذلك تعد أعمال أوجيست كونت بمثابة التأسيس الإبستيمولوجي لهذا الواقع العلمي، الذي أمدنا فيما بعد بفلسفة العلوم التي واكبتها أيضا ظاهرة الدول القومية وما صاحبها من مد كولونيالي اجتاح دولا ومجتمعات[2].

مجتمعات ما بعد الكولونيالية :

تمطيط التاريخ وفق مقاربات العصر هي خاصية طبعت هذا التخصص الذي شهد تحولات كبرى سايرت ظاهرة تطور العلوم، وإن كانت أغلب التوجهات اليوم قد ذهبت نحو إذابة هذا التخصص ضمن حقول العلوم الإنسانية، إلا أن مقاربة هذا التخصص يتطلب جملة من الأدوات النظرية والمنهجية ، التي تستند إلى مجموعة من المفاهيم، لذلك يفترض قبل بداية أي بحث توخي تحقيق العلمية، وذلك بالوقوف وقفة نقدية وفاحصة لكل المفاهيم والتقنيات والنظريات التي ينوي الباحث استعمالها، وأن يتساءل بصرامة وموضوعية عن مدى ملاءمتها لدراسة أية حادثة تاريخية، وهكذا فإن أغلب المفاهيم والتقنيات والنظريات وكل ما تفرع منها من أدوات يقتضي سؤال الملاءمة الذي يفرض نفسه بقوة، مادامت هذه الأدوات العلمية قد أنتجت من أجل دراسة الظواهر البشرية ضمن سياق ابستيمولوجي محدد[3]، كما يسمح بإعادة إنتاج المفاهيم والمقولات والخطابات التي كرستها المركزية الأوروبية والظرف الكولونيالي.

في الواقع تفرض دراسة واقع مجتمعات ما بعد الكولونيالية معرفة العوامل التي مرت بها، الأمر الذي يقتضي فحصا دقيقا للأسس التي قامت عليها المعرفة التاريخية، لذلك يجب استحضار الديناميات التي تحكمت في هذه المجتمعات، خاصة أن العامل الخارجي المتمثل في الاستعمار قد لعب دورا محوريا، كما يسمح هذا الاستحضار بالقطع مع المفاهيم، التي يستخدمها الاتجاهين الوظيفي و البنيوي المتمثلان في ثنائية الثبات والحركة، أو ثنائية التقليد والحداثة، بحيث تصبح مقاربة هذه المجتمعات تنطلق من استحضار “ديناميات الداخل” و “ديناميات الخارج” اللتين فرضتا مفهومي القطيعة والاستمرارية، وفي الوقت نفسه يجري تعويض مفهوم التثاقف (Acculturation) الذي يخفي وقائع استعمارية، أو كما صاغه جورج بالاندييه (Georges Balandier) بالظرف الاستعماري[4]، وهو مفهوم ينطوي على علاقة هيمنة في ظل تمدد أوروبي أدى إلى اخضاع غالبة المجتمعات التي صنفت ” متخلفة ” أو ” بدائية” أو ” تقليدية”، لذلك يفرض هذا الواقع تفكيك الظرف الكولونيالي بوصفه موضوعا للتاريخ، يحاكي مستوى التقلبات التي عرفتها المجتمعات المستعمرة، التي لا زالت غالبيتها تعيش في مجالات الظرف الكولونيالي بوصفه علاقة هيمنة (Domination) بين مجتمعين مختلفين ومتعارضين بالماضي والايديولوجيا، بعدما فرضت أقلية أجنبية مختلفة من الناحية العرقية والثقافية منطقها على أغلبية محلية تتميز بالتخلف التقني، وجرى ذلك باسم نوع من التفوق، الذي استند إلى مبررات امبريالية، بحيث لم يجري فقط اللجوء إلى القوة بل أيضا الاعتماد على الحروب الصامتة التي أخذت طابع النعومة التي تسللت إلى مشهد مجتمعات ودول ما بعد الكولونيالية التي ترتبت عنها أنساق نقدية تسعى إلى فك الارتباط بالإرث الكولونيالي، من خلال التأسيس لسوسيولوجيا وطنية تداوي الذات وتحاول تفكيك الآخر من خلال تحليل الخطابات والمعارف التي أنتجها، مع السعي للتحرر من ماضوية سودوية عمت المشهد العام، وذلك من خلال تعزيز التفكير النقدي الجذري ضد الايديولوجيا الامبريالية ونزعة مركزية أوروبا وتفوق الرجل الأبيض، وهي المخرجات التي أمدتنا بخصوصية معالجة التاريخ في دول ما بعد الكولونيالية[5].

براديم التجديد داخل التقليد:

في الواقع تأثرت الكتابة التاريخية بالكل الامبراطوري والجزء الوطني، لأنه بعد خروج التجربة الإنسانية من الترابيات الواسعة التي يحكمها القيصر، اتجهت نحو حبيبات وطنية يحكمها الصف القومي والعصبية المحلية، خاصة خلال القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر،والتي انبنت عليها ثقافة الحدود المقدسة والهوية الملفوفة بالحس الوطني الذي تراكم كمشاعر لمجموعة بشرية اتفقت على المصير المشترك، والتحد الموجب للانسجام والتعايش، ورسم الأفق، الذي استوجب – أيضا – لملمة بطولات الماضي ورموزهم في شكل مراجعات “أوتاد” تشد من صلابة الكل الوطني عندما تهب عليه رياح الشدائد، التي عادة ما تتشكل في براغماتية عالمية لا تؤمن بالحدود بقدر ايمانها بمصالحها الجيواستراتيجية، لذلك اجتاحت ” الرمزيات والبطولات” كأنساق معرفية يتغذى منها الفرد الوطني، الذي يكون قد هيأ تراتبيا على تلقي هذه الأنساق التي تربي فيه الذوق القومي، واحساس بالانتماء إلى الكيلومترات مربع حيث ولد وشب، لذلك تتحول الكتابة التاريخية إلى مبتغى قومي وغاية حمائية لما بعد الكولونيالية[6].

طبعا هذه الغائية تباينت تشكلاتها في البقاع الوطنية، لأن التجربة البشرية اختلفت، لذلك تجد التاريخ القومي في اليابان الذي لا زال بدفع امبراطوري، يختلف ملمحه عما يجاوره في الصين الذي هو بملمح جمهوري شعبي، وما هو موجود في جنوب افريقيا الذي غزاها الأبيض البريطاني يختلف عما يوجد في اثيوبا التي غزاها الأبيض الايطالي، كما تتراء الزمنية على هذا الخط المعرفي، فما يرجح أنه قديم عند بعض الدول، لا يعدو أن يكون ماضي قريب عند أخرى، فالولايات المتحدة الأمريكية التي تتغدى شعوبها التي هاجر أغلبها من أوربا، على المتشكل خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، هو عند العراقيين والسوريين واللبنانيين، فحجة زمن[7].

لذلك تحول المجد التاريخي إلى صناعة محلية يجري استهلاكها وفق الخط القومي، الذي جعل من العناصر البشرية تختلف ذوقا ومزاجا، خاصة في تفسيرها للقضايا الكونية المشتركة، فالحرب العالمية الأولى (1914-1918) والحرب العالمية الثانية (1939- 1945) والحرب الباردة (1945- 1989)تجري معالجتها وفق قوالب وطنية جاهزة،لذلك ما يفسر بطولة عند الأول قد يفسر خيبة عند الآخر، وما يبدو تعايشا عند الأول قد يظهر تجنيا عند الآخر، لذلك لا يمكن الحديث عن المشترك الحدثي بقدر الحديث عن البراديم القابع في أذهان تتملكها الرغبة الوطنية التي غدت فيها الكتابة التاريخية إلى تجديد داخل تقليد لأنها لم تختلف في ملمحها عما كان شائعا زمن الامبراطوريات، حيث يتدفق مجد القيصر[8].

سيكولوجيا التنفيس:

لا شك أن الحالة البسيكولوجية للشعوب تتمظهر في شكل سلوكات وأفكار جمعوية، تكون فيها الأحداث الماضية بوصلة في رسم الملمح الاجتماعي، الذي عادة ما تجده يتعصر حسرة لدى المجموعات التي عانت من هزات عنيفة جرت في شكل حروب مدمرة أو جائحة، أوغصب أبقاها مسكونة بالجلاد الذي حرم عليها سكينتها وراحتها، لتصطف هذه الهزات ضمن سوسيولوجيا القهر عند هذه المجتمعات،التي لا شك تبقى مصدومة من مرحلة عصيبة، وتحاول أن تداوي ذاتها بالحديث والافصاح الذي يتحول في الكثير من الأحيان إلى تنفيس وتخفيف من الغصب الذي مورس ضدها[9].

طبعا عندما تجتاح سيكولوجيا التنفيس مجتمعات ما بعد الهزات العنيفة، تتحول الكتابة التاريخية إلى سردية وشحنات عاطفية مليئة بالمعاني الإنسانية المختطفة، التي هي تحصيل دلالاتالواقع -الماضي الذي عادة ما يكون استمرارية لتشكلات الأمس، وبالتالي في اعتقادنا هناك فروق واضحة لما يتملك شعوب المعمورة من ماضوية ستأثر بشكل مباشر في نظرتها للماضي وطريقة تدوينه،الذي سيتغذى من قوالب الحرية واملاءات الشخص الذي يتملكه الاحساس بالمجموعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، لذلك تبقى الماضوية شحنات إنسانية عليها أن تتدفق ضمن أطرها الطبيعية التي حددت لها، ضمن قنوات بسيكولوجيا التنفيس التي لا شك ستزداد تركيزا عندما تسقط أدوات البحث ونواميس المنهج[10].

قَيمية البينية :

كثيرا ما أخذ التاريخ نصيبه ضمن سوق العلوم الإنسانية المشتركة، التي تحولت إلى مصوغ لرسم الملمح الطلابي في الوسط الجامعي، حيث أصبحت أقسام العلوم الإنسانية هياكل قائمة بذاتها، ويجري فيها التأسيس للملمح العلمي، الذي عليه أن يلبسه الطالب المتخصص، لكن يبدو أن الفصل والعزل والتضييق، خدمة لمجال معرفي معين، قد أنتج مساحات معرفية متباينة يتنكر بعضها إلى بعض، بل ويتزاحمون في سوق المعرفة على أساس أن كل واحد يملك انتاجا ” مبهرا” أو حلولا لما يعيشه المجتمع من خضات وهزات،لذلك تجد حتى داخل البيت الإنساني (العلوم الإنسانية) حالة جفاء تعم المشهد العلائقي، الذي هو تحصيل تقوقع معرفي، يكون فيه – مثلا – طالب التاريخ محمولا على تلقن–فقط- المادة التاريخية دون أن تكون له دراية أو إطلاع على العلوم الأخرى المساعدة في تشكيل وعي كامل وعميق بالحدث التاريخي ومخرجاته الزمنية التي قد تظهر في شكل هزات ارتدادية تحتاج إلى جراحة بينية وليست إلى جراحة تخصصية. لكن ما المقصود بذلك ؟

في الواقع يقودنا الجواب على هذا السؤال إلى تاريخية الاتفاق الضمني، الذي جرى بين مختلف العلوم والمعارف، بعدما أفضت حضارة أوروبا المبنية على التقنية، إلى تشكل مساحات بحثية للعلوم، تحول فيها التخصص إلى حفرية علمية لها أدواتها ومنهجها، الذي يختلف ذوقا ومزاجا عن العلوم الأخرى، لذلك تحولت المعرفة العالمية نتيجة هذه المقاربة التخصصية إلى شبه مساحات ترابية تحكمها الحدود المشتركة التي تراعي خصوصية كل معرفة، لكن هذا الوضع الذي استمر تقريبا منذ القرن الثامن عشر، أخذى يتلاشى بفعل توسع آفاق المعرفة الأوروبية في الميادين الفيزيائية والرياضية وعلوم الأحياء والكيمياء وغيرها من العلوم، حيث تدفقت مصائر ابستيمولوجية كانت فيها الفيزياء بحاجة إلى الرياضيات والرياضيات بحاجة إلى الفيزياء، والكيمياء بحاجة إليهما، وهكذا تشكلت عُقد علمية مُنمذجة يستحيل فصلها عن بعضها البعض، أو عزلها عن مساراتها التي تنبش في المعرفة، لذلك وقعت حالة انصهار لما كان يصطلح عليه بالتخصصات، التي تجاوزت مرحلة التحالفات التي تحفظ لكل تخصص ملمحه، إلى مرحلة التداخلات التيتذوب فيها التخصصات وتصبح هيكلا معرفيا واحدا[11].

اتسعت دائرة هذا المستحدث القيمي الذي طبع خاصة الدول الأنجلو ساكسونية، على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث زحف هذا الوافد على التخصصات الأخرى التي أصبح فيها التخصص أيقونة ضمن برنامج متكامل غرضه تحقيق المعرفة وفق المنهج البيني،الذي تتداخل فيه مختلف العلوم[12]. لكن قد تتماهى الفروق البحثية بين البينية والتداخلية والتعددية والعابرة وأيضا المساعدة ؟

في الواقع هناك فروق شاسعة بينهما فالبينية(interdisciplinarité)هي مرحلة متقدمة من التكامل المعرفي، الذي بقي يتداخل كتخصصات منذ أحداث الثورة الصناعية وحركة النهضة الأوروبية وما صاحبها من حركة تنوير، حيث كانت هذه الكتلة النهضوية هي تحصيل تشبك مختلف العلوم، التي كانت فيها المعرفة ركن معهود إلى علم بعينه، يستند إلى علوم مساعدة في حل بعض قضاياه التي يلفها الغموض. وهو ما جعل من العلوم المساعدة كخطوط خلفية تقدم الدعم المعرفي دون أن تكون في المواجهةالمباشرة،التي يتحملها التخصص بعينه.لكن البينية هي مرحلة متطورة من التشبك الإبستيمولوجي الذي لا يوجد فيه تخصص بقدر وجود إشكالية علمية أو معرفية تجيش لها مختلف العلوم التي تتحول إلى جنود ميدانتصطف ضد المجاهيل، التي تختفي معها المساحات التخصصية، ومدلولاتها المشحونة بالقوالب الجاهزة التي تتغذى من المنهج المتخصص[13].

إن البينية التي هي تحصيل تداخلية المعرفة وتكاملها، حيث تحولت سياقاتها إلى معول في ثقافة المنهج ضمن العلوم الدقيقة والطبيعية، وهي القيمية التي تحتاج بدورها أن تكتسح العلوم الاجتماعية والإنسانية، التي لا زالت في أغلب مجتمعاتنا منزوية في مضامين لا تخرج عن المدركات التقليدية، حيث تسود الرؤى الأحادية والمقاصد الموجهة إلى تحقيق الغائية المتخصصة، لذلك مفهوم البينية كقيمية أصبح ضرورة تفرضها الأطر الإبستيمولوجية لقضايا العصر الذي لاحت فيه التشعبية وما تقتضيه من تلاحمية وتكاملية لمختلف العلوم[14].

إن علم التاريخ الذي يتملكه السؤال الأزلي وهو أفعال الإنسان ستكون البينية قدره المحتوم في عالم ما بعد العولمة، خاصة وأن البينية يمكن أن تحقق فراتدها من خلال تجسير المسافات المتوهمة بين سائر التخصصات، وتحقيق الوعي بضرورة الاندماج والتداخل والتقاطع بين الحقول المعرفية المتعددة، لذلك لا شك أن القيمية التاريخية المبتكرة ستختلف عما كان قائما منذ عهود، لأن طبيعة العلوم ومناهجها وهاجة في كل زمان، وهو ما يجعل من المعرفة تتشكل وتتكوم وفق رؤى بحثية متجددة، تساير المشهد العالمي باعتباره تشكيلا متنوعا من القوى والإرادات والانتماءات والثقافات والتطلعات[15]، التي سيكون فيها علم التاريخ دائرة معرفية تساير عالم ما بعد العولمة.

خاتمة:

لماذا نكتب ؟ ولمن نكتب ؟ وكيف نكتب ؟ أعتقد هي أسئلة متحركة تلازم المناهج التاريخية وتطلعاتها في كل ظرفية، يمر بها الإنسان الذي تشتت بين قوالب حضارية، جعلت من التاريخ مادة يجري عجنها وفق مذاق الحضارة ومزاج العهود التي يعيش فيها ذلك الإنسان، الذي يبقى دائما رهان ماضوية تتدفق في شكل أنساق حدثية تتمظهر في سلوكات أو نفسيات تسكن الشعوب والمجتمعات على غرار الشعوب التي عانت من مرحلة كولونيالية عصيبة، كادت تأتي على تنبتها الأممي الذي كان يبقيها كبنية إنسانية متشبكة ضمن الإنسانية العالمية، حيث جرى ضعضعة وزعزعة هذه المجتمعات التي تدفقت إليها تعنيفاتبذوق القهر والبطش، والتهميش، والميز والركن، وغيرها من الممارسات التي تحولت إلى صدمات اجتاحت مجتمعات ما بعد الكولونيالية،التي تحول لديها التاريخ الكولونيالي إلى ماضوية سودوية يجري التخلص منها وفق سايكولوجيا التوصيف لأمس حالك يسوده ظلام دامس.لذلك تمطيط التاريخ وفق الحاجة الاجتماعية والإنسانية،هي ظاهرة سايرت المشهد الأممي وتمظهراته التي تتقطع-عند الأحداث العالمية الكبرى- إلى ورقات سوسيولوجية تتكوم فيها السلوكات والبسيكولوجيات التي تجد لنفسها تموضعا معرفيا، ضمن الأطر العامة، التي ترسمها الشعوب لنفسها،لذلك وحدة الرؤى نحو التاريخ في اعتقادنا هي أسطورة إغريقية يصعب تصديقها أوتحقيقها.

أما القيمية فيبدو أنها صورة متحركة على المشهد الإبستيمولوجي، الذي تكون فيه المناهج العلمية دينامية متغيرة وبشحنات متفاوتة يجري تعديلها وفق الحاجة المعرفية، التي تعيد تشكيل نفسها في كل مرحلة إنسانية وتجربة بشرية، لذلك تعد البينية في التاريخ أحد المظاهر التي ستتشكل حول هذا العلم الذي مر بعدة مراحل من حيث المفهوم والمنهج والغاية، وإن كانت المجتمعات التي توصف بالمتقدمة قد قطعت أشواطا في هذا المنهج، إلا أن المجتمعات الأخرى لا زال الكثير منها يتعاطى مع التاريخ بمناهج غير مُحينة وهو ما يفقده في اعتقادنا صفة القيمية الأممية.

 

 

 

بيبليوغرافيا:

  • بن زردة توفيق، تطور علم التاريخ في العالم الإسلامي، من المقدس إلى الوطنية، بين القرنين 01/ 07م- 15ه/ 21م، كتاب المؤتمر الدولي للتكامل المعرفي وتاريخ العلوم، أنقرة، 2022.
  • بن رابح أحمد، “البينية في العلوم الإنسانية، التأسيس والضرورة”، مجلة تطوير، مجلد.09، ع.02، 2022.
  • سعيدوني ناصر الدين ، المسألة الثقافية في الجزائر، النخب، الهوية، اللغة- دراسة تاريخية نقدية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021.
  • محمد مزيان ” مشروعية الغزو والإلحاق في الأدبيات الكولونيالية الفرنسية”، مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مجلد 05، ع.17، 20016
  • مكاكي محمد، ” الدراسات البينية: المفهوم والأصول المعرفية”، جسور المعرفة، المجلد 7، ع.05.
  • عبد الحليم مهورباشة وآخرون، مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ج02، مقاربات اجتماعية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022.
  • العروي عبد الله، مفهوم التاريخ، الألفاظ والمذاهب، المفاهيم والأصول، ط.5، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005.

 

[1]– أحمد بن رابح، “البينية في العلوم الإنسانية، التأسيس والضرورة”، مجلة تطوير، مجلد.09، ع.02، 2022، ص، 177، 178.

[2]– أحمد بن رابح، المرجع السابق.

[3]– عبد القادر بوطالب، علم الاجتماع بين الكوني والمحلي: إشكالية المفاهيم وسياقاتها في البحث السوسيولوجي بالمغرب،، مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ج2. مقاربات اجتماعية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ص، 413

[4]-Georges Balandier, Sens  et puissance, Paris, PUF, 1971, pp.13-16.

[5]– خصص ناصر الدين سعيدوني، في هذا المنحى دراسة شاملة عالج فيها المعضلة الثقافية في الجزائر بامتداداتها التاريخية وارهاصاتها الآنية، يرجى الرجوع إلى :

ناصر الدين سعيدوني، المسألة الثقافية في الجزائر، النخب، الهوية، اللغة- دراسة تاريخية نقدية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021.

[6]– توفيق بن زردة، ” تطور علم التاريخ في العالم الإسلامي، من المقدس إلى الوطنية، بين القرنين 01/ 07م- 15ه/ 21م”، كتاب المؤتمر الدولي للتكامل المعرفي وتاريخ العلوم، أنقرة، 2022ـ ص، 238-240.

[7]– المرجع نفسه.

[8]– خصص عبد الله العروي دراسة حول مفهوم التاريخ وتشكلاته كمعرفة. يرجى الرجوع إلى :

عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الألفاظ والمذاهب، المفاهيم والأصول، ط.5، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 2005.

[9]– خصصت مثلا مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية التي تصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، عددا خاصا عن سوسيولوجيا إنتاج المعرفة الكولونيالة، يرجى الرجوع إلى :

“سوسيولوجيا إنتاج المعرفة الكولونيالية – حالة المغرب”، مجلة عمران، مجلد.05، ع.17، 2016.

[10]– توفيق بن زردة، المذكرات بين الأوعية الاخبارية والحقيقة التاريخية، ورقة بحثية مقدمة ضمن أشغال الملتقى الدولي حول العربي بن مهيدي والتاريخ، جامعة العربي بن مهيدي، 02،03 مارس 2021، ص، 05، 06.

[11]– اجتاحت البنية دوائر الاهتمامات المعرفية في الجامعات العربية التي نظمت ندوات وملتقيات في هذا الموضوع، أنظر مثلا :

المؤتمر الدولي الثالث ” مستقبل الدراسات البينية في العلوم الإنسانية والاجتماعية ” 15- 16 مارس 2016، جامعة حلوان .

مؤتمر ” علم التاريخ والدراسات البينية: أسلوب قديم في سياق عالمي جديد”، في الفترة من 5- 6 مارس 2014، جامعة قطر

[12]– في زيارة قادتني نهاية سنة 2023 إلى مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة قطر، حدثني الأستاذ الدكتور  التيجاني عبد القادر حامد رئيس قسم العلوم الاجتماعية أن تخصص التاريخ يوجد ضمن كلية  متخصصة في العلوم الدقيقة كمقاربة مأخوذة من النموذج الأمريكي.

[13]– أحمد بن رابح، المرجع السابق، ص، 180، 181.

[14]– محمد مكاكي، ” الدراسات البينية: المفهوم والأصول المعرفية”، جسور المعرفة، المجلد 7، ع.05، ص، 276-278

[15]– المرجع نفسه.