تفصيل
- الصفحات : 633 صفحة،
- سنة الطباعة : 2022،
- الغلاف : غلاف مقوى،
- الطباعة : الأولى،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-263-7.
كل بني آدم يفدون إلى هذه الأرض ويقضون فيها آجالهم المحدودة، ثم يمضون إلى الآخرة، وبتوالي الأيام وتعاقب السنين يسدل النسيان ستاره عليهم فيختفون من الذاكرة، وقد ينساهم في خضم الحياة حتى أقاربهم ومعارفهم: ولا يتذكرونهم إلا في مناسبات .
ولكن هناك صنفا من الناس تنتهي آجالهم في هذه الحياة ويرتحلون عنها إلى الآخرة ويبتلعهم بطن الأرض ويتحولون فيه إلى تراب، ومع ذلك يبقون أحياء يفرضون وجودهم، ويشغلون العقول بالتفكير فيهم والألسنة بالإشادة بهم وبأعمالهم وفضائلهم، فكأنهم ما ارتحلوا عنا، وما غيبتهم قبورهم يوما .
والذين ينفردون بهذه الميزة هم القلة القليلة في كل أمة لأن الطريق إليها صعب عسير تكتنفه متاعب ومشاق، ويتطلب جهادا مستميتا وعزوفا عن الشهوات والمغريات وتمردا دائبا على الراحة ورفضا صارما للخمول والكسل والجمود .
ولا يقدر على سلوك هذا الطريق الصاعد الشاق إلا الذين يحملون بين جوانبهم قلوبا قوية حية تلتهب حماسة وعزما ونزوعا قويا إلى أعالي الحياة وتتموج فيها نسائم الأمل والطموح .
وهؤلاء مع قلتهم في كل أمة هم شبابها وجمالها، وهم أهلها ورجاؤها، وهم جسورها إلى غدها الوضيء المشرق، وهم الذين بهم تنافس الأمم في بناء الحياة وصنع التاريخ.
وهم أصناف متعددة فيختلفون تكوينا وتخصصا واتجاها، ولكنهم يشتركون في هذا الامتياز وهو أنهم حملوا أمانة ما لا يشعرون بالراحة إلا في أدائها، ويدركون في أعماقهم أن لأوطانهم صوتا يجب أن يسمع، وأن لها تاريخا يجب أن ينشر، وأن لها مكانة يجب أن تتبؤأها بين الأمم .
فمن هؤلاء (العلماء) والمفكرون والمصلحون، والمجددون، والأبطال، ومن الصنف (الأول) العلماء العلامة الشيخ أحمد حماني الذي عاش حياته كلها مجاهدا بفكره وقلمه، يربي الأجيال، ويؤلف الكتب، ويضيء الدرب أمام المربين، ويحضر المؤتمرات داخل الوطن وخارجه، وفي كل ذلك تراه قوي الوطنية كامل الرجولة، عالي الأخلاق، عزيز النفس أشد ما يكون الخداع والرجاء، والجبن والخيانة، وكل الأسلحة المغلولة التي يعتمدها ضعاف النفوس في هذه الحياة .
كان الشيخ متوسط القامة، سريع الحركة، جريئا مقداما، قوي العارضة، شديد الثقة بنفسه، واسع الاطلاع، صريح القول، طموحا لمعالي الأمور، حاضر البديهة، وكثيرا ما تبينت هذه الطبائع والمواهب ورأيتها فيه بجد ووضوح أثناء المجالس المختلفة التي جمعتني به داخل الوطن وخارجه، وقد تتحول أحيانا هذه المجالس إلى معارك والسلاح فيها الحجة الدامغة، والرأي الصائب، والقول الفصل، فأرى خصمه يكاد يغلبه لقوة رأيه، أو فصاحة لسانه، فما هو أن يطرق رأسه إطراقة خفيفة في صمت ثم ينطلق في دفاع قوي مؤيد بالشواهد التاريخية التي انتبه لها في إطراقته وصمته .
تقوم شخصية الشيخ حماني على هذه الدعائم التي لا يدركها كلَّها فيه إلا من عاشره وسافر معه، وتقلب معه في مختلف الظروف:
– مواهب فطرية مرموقة من ذكاء وألمعية ورجاحة عقا، وقوة حافظة .
– عِلم واسع يجعله يتحدث في كل فن وعلم وحجة ودليل، وتوسع كأنه لا يعرف سواه .
– قلم له مقدرته المرموقة في كل موضوع يريد أن يعالجه، وأبرز ما يتميز قلمه الوضوح وتحديد الفكرة، وتَلَذُّ له الكتابة على ركبته ولو كان على مكتبه .
– حبه للعمل وإيقانه بأن قيمة الإنسان بعلمه، وفيما يصل إلى الآخرين من نفعه وعطائه، وكان يحلو له أن ينشد هذا البيت:
قيمة الإنسان ما يحسنه { وكثَّر الإنسان منه أو أقل
– احترامه لأهل العلم ونظرته إليهم بالإكبار والإجلال، وهو يرى أن المال محبوب مرغوب فيه، لأنه يُكسب صاحبه مظهرا يرفع مكانته بين الناس، وربما أنشد في هذا المضمار قول الشاعر:
من كان يملك درهمين تعلَّمت { شفتاه أنواع العلــــــوم فقال
إن الدراهم في المـواطن كلِّـها { تكسو الرجال مهابة وجلاَلَ
فهي العلوم لمن أراد فصاحـة { وهي اللسان لمن أراد مقالا
ولكن سرعان ما يستدرك ويلاحظ في لهجة واثقة أن هذه النظرة إلى صاحب المال إنما هي عند العامة وبسطاء الناس، أما العقلاء أهل النظر الصائب فإنهم يقدرون الناس بما حباهم الله به من المواهب والعلوم والأخلاق .
– وطنية قوية صادقة كلَّفته متاعب ومشاق خلال عهد الاستعمار، وكان إذا ذكرها تيقظت في أعماقه آلام وجراح، ولكنه كان ينتشي بها وينتدى، لأنها في سبيل وطنه ومن أجل أن يتحرر من براثن الاستعمار الأهوج العاتي .
على هذه الدعائم تقوم شخصية الشيخ حماني التي ظل بها طوال عمره يجاهد بفكره وقلمه ولسانه في شتى المجالات دون ملل أو كلل، ودون أن تنال منه عقبات أو معطلات أو محطمات .
ويزيد هذه الشخصية جلاءً ووضوحاً عرض بعض مواقفه وأقواله التي تفرض نفسها في هذا المضمار وبقوة، وتكتسي أهميتها البالغة في تحديد هذه الشخصية التاريخية:
– كان الشيخ إذا ارتفع هنا أو هناك كصوت منكر يريد التهوين من شأن الإسلام أو الوطن أو اللغة العربية، أو النيل من أي ثابت من ثوابت الأمة تغير مزاجه، وتملكه الغضب ولم يعًدْ إلى مزاجه وطبعه حتى يقول في ذلك المنكر كلمته، ويُعلق عن ضرره وخطره .
وأذكر أن شخصا كتب في إحدى صحفنا اليومية حينما اصدت كتابي عن العملية الشهيرة ( العصفور الأزرق ) التي برهن فيها قادة الثورة التحريرية عن تفوقهم على قادة فرنسا في الذكاء والحيلة، كتب هذا الكاتب ينكر بشدة وجود هذه العملية، ويستبعد بشدة أن يتفوَّق رجالٌ اُميون على رجال هم قادة الفكر والسياسة، فثار الشيخ حماني وهاج وطلب مني أن أترك له الفرصة ليرد عليه وبقلمه حجرا ويخرس هذا القلم الذي (خربش) به صاحبه هذا الضلال المبين، وقال: إن إخراسه قربى إلى الله تعالى وفتح لباب من أبواب الجنة .
– وكنت بقسنطينة في إطار طبع تراث الإمام عبد الحميد ابن باديس[1] في أوائل الثمانينيات، فجاء الشيخ حماني إلى قسنطينة ليلقي محاضرة بالمركز الثقافي الإسلامي، وكنت اعتزمت حضورها ولما حان موعدها طرأ طارئ قاهر حرمني منها، وفي المساء التقينا على مائدة مدير مطبعة البعث المرحوم السيد: عبد الحميد عياط ولما اعتذرتُ له عن عدم حضوري حدجني بنظره وقال: هل تدري كم عدد الذين حضروا هذه المحاضرة؟ فقلت له: بقدر أن تكون القاعة غاصّة بالحاضرين نظرا لمكانة المحاضر وأهمية الموضوع.
فقال في بسمة عريضة ولكنها تُخفي هما وحزنا: لم يحضر إلا سبعة أشخاص منهم مدير الشؤون الدينية بقسنطينة وكاتبه، ولو كان مكاني أحد المطربين لغصت القاعة بالناس وتزاحموا على أبوابها .
فقلت له: ربما كان هذا الآن الذين يطلبون العلم والمعرفة أقل ممن يرغبون في اللهو والطرب، ولأن حضور المحاضرة صعود، وحضور الطرب انحدار، والصعود أصعب من الانحدار.
فتأملت الشيخ قليلا ثم تنفس الصعداء وقال في لهجة حزينة: ربما كان هذا أو ذاك، ولكن الذي أعرفه ولا شك فيه هو أن بضاعة العلماء ما يزال الناس عندنا يجهلون أهميتها وقيمتها، ويؤثرون عليها الغناء والرقص .
وبتنا معاً في الولاية بقسنطينة بعد أداء مهمة كُلفنا بها من قبل وزارة الشؤون الدينية.
وبعد تناول العشاء جلسنا لتناول الشاي وقضاء فترة من السمر حتى يحين وقت النوم، فقال الشيخ هذه فرصة ينبغي أن لا تمر بلا فائدة عن أبرز محطاتك في الحياة وإما أن أتحدث أنا .
فقلت له: تحدث أنت أولا وكلي سمع ويقظة وانتباه .
فتحدث الشيخ بإسهاب وفي تأثر بالغ عن سجنه خلال الثورة التحريرية، وما لاقاه على أيدي الطغاة الفرنسيين من إهانة وتعذيب، وكانت لهجته وتقاسيم وجهه تعبر عن بقايا آلامه في نفسه .
وفي نهاية حديثه قال: وكل هذا هيّنٌ يسيرٌ في سبيل الجزائر، ومن أجل هذه الحرية التي ننعم في أحضانها اليوم .
ونزل به مرض ألزمه الفراش أياما فذهبتُ صحبة الأخ عبد الرحمن شيبان- وكان إذ ذاك وزيرا- إلى بيته في شارع علي بومنجل لعيادته، ولما كنا بجنبه مازحته قائلا: أنت لن تموت مهما اشتد مرضك .
فقال: أنت تعلم أنني لا أخاف من الموت الذي يُغيّب في القبور، وإنما أخاف من الموت الذي يطمس النور .
وكنت دائما أمازحه بقولي: أرجوا ألا تموت حتى نموت، وكان يدرك معنى هذه الكلمة ويطرب لها .
– ووقفنا ذات يوم على باب الإذاعة الوطنية بشارع الشهداء بعد تسجيل حديثين للتلفزة، ووقفنا ننتظر سيارة من وزارة الشؤون الدينية، فمر بنا أستاذ وبعد المصافحة انطلق يفيض علينا بالثناء والتقدير، ويشيد بعلمنا وأعمالنا الثقافية، ولما فارقنا وذهب في شأنه التفت إليَّ الشيخ وقال: لا أشك في صدق الرجل فيما يعتقده فينا، ولكن تبقى المجاملة اليوم أمرا شائعا بين الناس إلى حد أنها أصبحت سُوساً ينخر جسم العمران البشري، فصار أحدنا قلَّما يثق فيما يقوله الناس .
– وحضرنا ندوة علمية بالجزائر العاصمة ضمَّت علماء من بعض البلدان العربية والإسلامية، إضافة إلى أساتذة من الجزائر، فقدم الشيخ مداخلة قصيرة لم يفتتحها بالبسملة لنسيانه أو اعتبر المداخلة عارضة لقصدها، فقام عالم عراقي ولاحظ على الشيخ هذا الإهمال، وعدَّه هفوة منه، ولكنها تحتسب عليه لمكانته العلمية التي تفرض أن يكون قدوة، واستشهد بالحديث ( كل أمر ذي بال لا يبتدئ فيه ببسم الله فهو ابتر ) .
وكان رد الشيخ العراقي أطول من مداخلة الشيخ حماني، ولما رجع العراقي إلى مجلسه قام الشيخ حماني للرد والإجابة، فاشرأبت الأعناق وانتظر الناس في شيء من التلهف إلى ما يقوله الشيخ، كيف يعلل إهماله للبسملة وهو العالم بمداخل الشريعة ودقائقها .
ولكن الشيخ الفطن الذكيّ انتبه للشيخ العراقي بأنه لم يبدأ مداخلته بالبسملة، فقال في لهجة ساخرة: وأنت لِمَ لم تُبسمل مع أن كلمتك أطول من كلمتي، أم أنها واجبة عليّ غير واجبت عليك ؟
فماجت القاعة بالضحك والتصفيق إلا الشيخ العراقي فإنه بُهت مما سمع، وظل برهة يلاحق الوجوه ببصره، وعلمت في المساء من بعض الذين تحدثوا معه أنه أعجب بذكاء الشيخ حماني وشدة انتباهه .
– وكان الشيخ يتفانى في حب الإمام ابن باديس ويتخذه قدوة يترسم خطاه في أقواله وأفعاله وسلوكه، ويعتز بجمعية العلماء وينوه بفضائلها، ويُكنُّ أسمى مشاعر التقدير لكل أعضائها .
ولا أنسى الرسالة التي أرسلها إلى الشيخ عبد الرحمن شيبان حينما استشهد الشيخ العربي التبسي وكنا يومئذ بتونس نُحررُ صحيفة ( المقاومة ) اللسان الرسمي لجيش وجبهة التحرير الوطني، فقرأها عليَّ شيبان وكانت تقطر أسى وحزنا، وتعبّر بصدق عن مكانة الشهيد في قلب الشيخ ومكانته بين العلماء .
– وكان الشيخ يحب الطبيعة ويتذوق جمالها، وإذا احتضنته استروح أوجها واستوعب أسرار الحياة المبثوثة في نباتها وزهرها، وقد رأيته مرارا كيف ينقطع إلى الطبيعة بكل مشاعره وأحاسيسه لا سيما غروب الشمس الرهيب وما يصاحبه من ألوان الشفق الباهرة، وما يوحي به ذلك من معاني ودلالات .
هكذا كان الشيخ أحمد حماني عالما عاملا وطنيا صادقا، مناضلا مخلصا، مؤلفا ناجحا، غيورا على دينه ووطنه ولغته، مدركا لقيمة الوقت وأهميته في صنع الحياة، فاستغله واستثمره في تأليف الرجال- كما كان أستاذه ابن باديس- وفي تأليف الكتب، وتحرير الأبحاث والدراسات، رغبة منه في نشر العلم والمعرفة، وتلبية لنوازعه النفسية التي تهتف به في أعماقه دأبا أن واصل السير نحو الأفضل ونحو الغد الوضيء .
ورجلٌ هذا طبعه وخلقه، وهذا علمه وجهاده، وتلك آثاره الشاهدة ورحلته عبر الزمان الخِصبة المثيرة جدير بأن يُهتم به ويعنى بتاريخه، وتوضع آثاره في متناول اليد حتى يتمكن هواة المعرفة، وصُنّاع الحياة أن ينتفعوا بها، ويستضيئوا بنورها في طريقهم .
وقد انتبه لهذه المهمة الجليلة أحد أساتذة جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة الذي تأثر بشخصية العلامة الشيخ أحمد حماني وأدرك قيمة أعماله الفكرية ألا وهو السيّد أبو أسامة عمر خلفة- فجمع مجوعة من المحاضرات التي ألقاها الشيخ داخل الوطن وخارجه.
ونحن إذ نهنئه على هذا العمل، نرجو الله تعالى أن يُثيبه على ذلك، وأن ينفع به وبعمله هذا هواة العلم والمعرفة من الطلاب والباحثين .
هذا وقد أطنبت في الحديث عن الشيخ أحمد حماني لاعتقادي أن حياته سراج منير، تنير الدرب وجوانب الحياة .
أما محاضراته المجموعة في هذا الكتاب فأدعها تتحدث عن نفسها، فما على القارئ الكريم إلا أن يُصغي ويُجيد الاستماع، والله ولي التوفيق .
محمد الصالح الصديق
بتاريخ: 16 أفريل 2011م