تفصيل
- الصفحات : 338 صفحة،
- سنة الطباعة : 2020،
- الغلاف : مقوى،
- الطباعة : الأولى،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-002-2.
بأي معنى من المعاني يكون اليومي موضوعا للفلسفة؟ اليس اليومي هو ما يهم الانسان العامي الذي لا يتعالق مع الوجود إلا في نقطة تأمين الوجود هنا- بعيدا عن اللغة الهيدغيرية- والذي يحيا داخل نسق من العلاقات الاجتماعية التي تمارس عليه اكراهاتها؟ اليس اليومي هو الرتابة، التكرار، الاكراه، الاوامر، النواهي؟ إنه وبعبارة أخرى الوجود الحقيقي بالنسبة لأولئك الذين استلمتهم الحياة ورمت بهم في غياهب تفكير لا يفارق المشاكل اليوميّة البسيطة” بعيدا عن الانشعال بما هو كونيّ متعلق بوجودنا الأصيل، لتتحوّل بهذا المشاكل اليوميّة لبديل مريح لمشاكل الوجود في العالم، التي لا نقدر على مواجهتها و لا على تحملّها، إذ يكون حمل اليوميّ و تحمّل مشاكله أفضل بكثير من تحمّل القلق الأنطولوجي الأصيل”
و لكن هذه البداهة التي يظهر عليها اليومي ليست بهذه السطحية، أو ليست كما تظهر لنا، فهو(اليومي) ليس مجرد تعبير عن ذلك التتابع الزماني للوجود الانساني، بل هو كيفية في الوجود ، فالانسان وبرغم اندماجه الظاهر في اليومي وتناغمه معه الا أنه ومع ذلك كائن فاعل منفعل يأبى التموضع داخل حدود ثابتة صارمة، فالفعل الاجتماعي ذاته يتموضع خارج منطق الثبات كما يؤكد على ذلك هنري لوفيفر.
بعبارة أخرى لايمكن اختزال اليومي في الصورة السطحية التافهة التي تلازمه و التي يقبلها الجميع، فما يظهر منه لايعبر بالضرورة عن فعل الظهور كما اشار الى ذلك هيدغر عندما ميّز بين الظاهرة وفعل الظهور،”فاليومي لايعبر عن نفسه بطريقة دقيقة وواضحة “على حد تعبير ميشال مافيزولي.
إن الغموض واللاظهور والاحتجاب الملازم للوضوح الظاهر، قذف بالانسان الى اتون الضيّاع والرتابة المصحوبة باغتراب الانسان عن إنسانيته التي التهمتها التقنية ” التي عطلت احساسه بالواقع وحجبت عنه جوهر الحقيقة، كما اشار الى ذلك اريك فروم في مؤلفه الانسان بين الجوهر والمظهر. لقد استحوذت التقنية على كل ما كان يمثل مرجعية للأفراد في حياتهم الأخلاقية والدينية والجمالية، وأصبحت الإله الجديد، الذي يقول لهم من وراء شاشات تعمل عبر تقنيةالاشهار المؤدلج على أسطرة الواقع وبرمجة المتلقى، وجعله يتماهى مع وجوده المفروض عليه دون أدنى مقاومة، إنها تقول لنا: ماذا تفعلون، ماذا تلبسون، كيف تسكنون.. كما أشار الى ذلك هنري لوفيفر في مؤلفه الحياة اليومية في العالم الحديث.
لقد أوغل العقل البشري في التقدم التقني، وأصبح التراجع عن مكتسبات الحضارة المعاصرة ضربا من الوهم، حتى وإن كان الجميع يتفق بأن الانسان المعاصر كسب كل شيئ وخسر نفسه، خسر حميمية الحياة و سكينتها، إنها لحظة اقتلاع الانسان بعيدا عن نفسه.
لقد تنبّه ايمانويل كانت الى حالة القصور والاتستلاب هذه- مع فارق في الأسباب- ودعى الى ضرورة “سعي الإنسان المستمر للتحرُّر من حالة الوِصاية التي يتحمل هو نفسه مسؤولية الخضوع لها. وتتجسّد هذه الحالة باعتبارها تمثل قصوراً وعجزاً عن إعمال الفرد لقدرته على التفكير والفهم بدون خضوعه لتوجيه وسلطة الغير ” .
إنّ الاشتغال الفلسفي على اليومي ليس وليد لحظة الاغتراب والاستلاب التي تعيشها البشرية اليوم، بل هو مبحث قديم نلامس ملامحه الأولى في متون النص السفسطائي المتمرد على الواقع الاثينيني أنذاك، وحديثا يمكن الاشارة للكثير من الفلاسفة (نتشه، هورسل، هيدغر…الخ)الذين جعلوا من اليومي موضوعا فلسفيا دون أن تفقد الفلسفة قيمتها من جهة، ودون أن تبتلعها الحياة اليومية وانشغالاتها فتقع في الابتذال من جهة أخرى، فالفلسفة-كما رأى ماركس- ليست خارجة عن الواقع… وبما أن كل فلسفة حقيقية هي زبدة زمانها فلا بد أن يحين الوقت الذي يكون فيه للفلسفة عقد مع واقع عصرها، وعلاقات متبادلة بينها وبين هذا الواقع، لا من الداخل فقط من حيث محتواها بل وأيضا من الخارج من ناحية مظاهرها، وعندها لن تعود الفلسفة تضاربا بين المذاهب بل مجابهة للواقع أي فلسفة العالم الحاضر”
والفلسفة كتفكير في الحاضر أو خطاب حول اليومي، تستمد قيمتها ووجودها وأهيتها من ارتباطها بواقعنا، ومتى أغفلت المجتمع وقضاياها وتعالت على اهتماماته تحولت لمجرد أحاديث جوفاء منقطعة الصلة، غريبة غربة متعاطيها نفسه.