تفصيل
- الصفحات : 366 صفحة،
- سنة الطباعة : 2024،
- الغلاف : غلاف مقوى،
- الطباعة : الأولى ،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-795-3.
لعل أهم ما يحدّد طبيعة الفكر الفلسفي العربي والإسلامي في لحظته الراهنة حسب المتلقي لأطروحاته الاستشكالية وممكناته المنهجية وإشكالاته الفلسفية، هو كونه واقع يشهد حَراكًا فكريًا شديدا ومتعدّدا، يعتمد في منطلقاته على معطيات المرحلة المتأزّمة من جهة -بما هي واقع مهزوم-؛ والسّعي وراء إحداث بديل معرفي نموذجي من جهة أخرى -كمخرج بدائلي للأزمة-، بحيث يكون هذا البديل بعيدا عن الهشاشة التفلسفية – التي قد لا تزيده إلا بعدا عن الفاعلية التاريخية- وقريبا من فلسفة التغيير والبناء، وقد تبلور ضمن هذه الحركة التغييرية أطاريح فلسفية متفاعلة مع الواقع وفق رؤًى فكرية متنوّعة، كثيرا ما يميّزها الاختلاف في اتجاهاتها الفكرية وسياقاتها الموضوعية ومرجعياتها المنهجية (حداثية، إصلاحية، علمانية، تأصيلية…)، مع أن سؤالها كان واحدا يتجلى بالأساس في رسم الكِيف التي تحقق لنا شروط الانخراط في صناعة الفعل التاريخي، والخروج من هذا الواقع المأزوم.
هذا؛ وقد تناولت هذه المشاريع الفكرية على تنوّعها؛ العديد من القضايا والمسائل التي واجهت ولازالت تواجه واقع الفكر العربي والإسلامي، محاولة في المقابل رسم أنجع السبل، وطرح أحسن الحلول للخروج من حلقة الانغلاق الفكري والرّكود الحضاري، وقد شكلت “المفاهيم الفلسفية“ الجزء الأساس من هذه المشاريع الفكرية على كثرتها، ومثّلت الرّهان الحقيقي في الكشف عن البدائل المعرفية المــُــبدَعة، ومدى جدّيتها في مستوى تجديدها للمفاهيم والخطاب الفلسفي عموما، كما كانت “المفاهيم الفلسـفية” ركيزةً أساســية بالنسبــة للفلســـفات التي حقّقـــــت تقدّما جليّا في منظوماتها الفكرية، وواقعها العلمي والعملي، خاصّة في ثورتها النقدية على الخرائط المفاهيمية الموروثة، والفلسفة في عمومها إن تأليفا شذريا أو أنساقا متكاملة، تتحدّد قيمتها استنادا إلى مدى ثرائها بمفاهيم مسؤولة مؤسَّسة كما كانت في الواقع الغربي، والمفاهيم الفلسفية هي المعالم الكبرى التي تميّز مرحلة فلسفية ما عن مرحلة فلسفية أخرى، أو حتى فلسفة عن فلسفة.
تعود أهمّية “المفاهيم الفلسفية” إلى الدور الأساسي الذي تمثّله من الحركة الإبداعية الإحيائية لفعل التّفلسف؛ ولما تبعثه في المتفلسف من استشكالات فلسفية وما تقدّمه من استدلالات منطقية منهجية، قصد وضع مفاتيح مفهومية تمكّن المتفلسف من تجديد خطابه الفلسفي، ووضع مناهج إبداعية جديدة ترقي بالفكر وتفتح له آفاق وضع فلسفة حيّة مستقلّة، فجــاءت المقاربات الفكريــــة والفلسفيـــة التي تضمّنها مشروع المفـكر المــغربـــي “طه عبد الرحمن“ معبّرة عن مكانة وأهمية هذه “المفاهيم الفلسفية”، وإبراز إمكاناتها في الرّفع من مستوى الخطاب الفلسفي العربي الإسلامي إلى درجة التّفكير في “الصناعة المفاهيمية والحرّية الفكرية“؛ وتحقيق مساعي الانفكاك والاستقلال عن القول الفلسفي المنقول، مطلِقا دعوة “ضرورة الإبداع” وإنشاء “مفهوم فلسفي” بمقوّمات ثقافية وتاريخية ولغوية ذات بعد خصوصي استعمالي.. أو ما عبّر عنه بـ “وفقًا للمجال التداولي“، فقد كانت كتاباته المحكّمة في اصطلاحاتها والمتنوعة في مجالاتها، تعبيرا حقيقيا عن مستوى الاستخدام الفلسفي لآليات وضع المفهوم أو استثماره، وإمكان تفعيل هذه المفاهيم في/على مستوى الواقع العلمي العملي، وهي المهمة التي نهض بها في مشروعه “فقه الفلسفة“، وسخّر لها مدوّنته الفكرية من أول كتاب له “اللغة والفلسفة” .
هذا؛ في الوقت الذي كانت فيه مشاريع العقلانية النقدية الموسومة بـ”الابستمولوجية”؛ كنقد العقل العربي (محمد عابد الجابري) ونقد العقل الإسلامي (محمد أركون) ونقد الخطاب الديني (نصر حمد أبو زيد)، ونقد الفكر العربي (زكي نجيب محمود)…، تجد بدائلها المعرفية في جاهزية “المفاهيم الفلسفية“ الغربية؛ كحلول كونية خالصة لأزمتنا الفكرية؛ محاولة إسقاطها وتطبيقها على الظواهر المفهومية المميّزة للواقع العربي الإسلامي الراهن (التراث، الدين، السياسة، الثقافة، الأخلاق، اللّغة…)، والتي تنوجد ضمن سياقات اجتماعية ثقافية وشرطيات تاريخية مغايرة لسياقات الواقع الغربي، فـ”طه عبد الرحمن” في مشروعه عدّ هذه المشاريع الفلسفية الفكرية المتداولة راهنا على أنها مشاريع فكرانية (أيديولوجية) أوقعتنا بتبعيّتها في تيه مفاهيمي أو بالأحرى “أزمة مفاهيمية” كبرى؛ تعبّر بحق عن عمق التقليد والتبعية للفكر الغربي؛ الذي يشهد بدوره تطورات فكرية وحداثة فائقة في المناهج المستخدمة؛ كتحصيل مباشر عن تراكمية فكرية منطقية امتدّت من اليونان مرورا بفرنسيس بيكون إلى غاية يورغن هابرماس، وهو ما يوقعنا نحن أيضا حسب المفكر “طه عبد الرحمن” في موقع ضرورة تأسيس فلسفة عربية اسلامية عبر تراكمية مغايرة تنفكّ عن إيثار الفلسفة الغربية ومناهجها، لنصل بها إلى إمكانية الخروج من دائرة المــُـماهاة والتقليد وندخل من خلالها إلى زمن الإبداع الفلسفي المستقل والمتحرّر، مؤسّسين لمفاهيم فلسفية جديدة وفق فلسفة خصوصية قومية تتكئ على أبعاد المجال التداولي العربي الإسلامي لغة ومعرفة وتاريخا ومعتقدا.
ولمـــّـا كان المفهوم الفلسفي بهذه المكانة في الفلسفة عموما؛ وفلسفة “طه عبد الرحمن” على الخصوص من خلال مشروعه “فقه الفلسفة”، كونه يشكّل القاعدة الأساسية لكل القضايا التي طرحها وطرقها في هذا المشروع، ارتأينا إلى أن نتباحث فلسفة هذا المفهوم بطرحنا لموضوع: ” المُسَاءَلة النَّقْدِيَة لِلْمَفْهُومِ الفَلْسَفِي عند “طه عبد الرّحمن“؛ وهو الذي لا يخلو أي كتاب من كتبه الفلسفية من مسألة البحوث اللغوية والتّأسيسات المفاهيمية للقضايا المستشكلة السّاعة
واختيارنا لهذا الموضوع يأتي استجابة لأسباب ودوافع عديدة ومتنوعة، منها ما هو موضوعي ومنها ما هو ذاتي؛ تتعلق الأسباب الموضوعية بموضوع البحث أساسا وموقع شخصية “طه عبد الرّحمن” من الفكر العربي المعاصر، كونه قد أخذ على عاتقه مَهَمَّة تجديد مفاهيم الخطاب الفلسفي المعاصر، والدّفع بها إلى التحرّر، لأن موضوع “المفهوم الفلسفي” هو من أبرز المواضيع التي تعلّقت بالفلسفة منذ عهودها الأولى إلى اللحظة الراهنة، وكما أنّه من أهم المعايير التي تحدّد طبيعة التفلسف وإمكان التجديد فيه، ومن الأسباب الموضوعية أيضا نجد ذلك النقص الذي يعتري جانب دراسة “سؤال المفهوم الفلسفي” في اجتهادات “طه عبد الرّحمن” إلاّ في ما ندر، بالمقارنة مع ما تناله القضايا الأخرى من تدارس وتباحث على غرار سؤال الأخلاق، وسؤال الحداثة، وسؤال التراث، وسؤال الدين…، وغيرها من الطروحات التي نجد لها كتبا تحليلية مستقلة ومفصّلة، أما طرح المفهوم كسؤال في ذاته، فقد لا نجد له إلا مباحث داخل فصول أو فصول موجزة، وإشارات عرضية، على الرغم من المكانة الأساسية التي يكتسيها “سؤال المفهوم” في فلسفة “طه عبد الرحمن”، وأما الأسباب الذاتية فهي تعود إلى اهتمامات الذات الباحثة بإشكالية المفهوم الفلسفي، وميولاتها في طرح مثل هكذا مواضيع متعلقة بالفكر العربي المعاصر أساسا، وفــــكر “طه عبد الرحمن” منه بخاصة لما تتميز به كتاباته من بعد أصولي إبداعي واهتمامه الكبير بفلسفة الدّين.
من خلال هذين السببين – الذاتي والموضوعي- تتجلى لنا أهمية الموضوع المطروح للدّراسة – فلسفة المفهوم– وهو كونه يتعرض لأهم مسألة انبنى عليها الفكر الفلسفي العربي المعاصر ومشروع “طه عبد الرحمن” منه بخاصة، وكيف أن الاهتمام بالمفاهيم الفلسفية يكوّن هوية اصطلاحية لا تنفصل عن ماهية الفكر العربي الإسلامي التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية، من أجل بلوغ حداثة عربية إسلامية ذات بعد خصوصي. وقد كانت مسألة المفهوم الفلسفي مثار جدلٍ بين نخب هذا الفكر ومفكّريه، ققد أدركوا أن أي حركة نحو الرقي بالخطاب الفلسفي لا تكون إلا بعملية تصحيحية بنائية للمفاهيم، ومن المفكرين الذين اهتمّوا بالمفهوم إضافة إلى “طه عبد الرحمن” نجد؛ “عبد الوهاب المسيري”، “محمد عابد الجابري”، “محمد أركون”، “عبد الله العروي”، “محمد عزيز لحبابي” وغيرهم.
أما عن الهدف المنشود من هذه الدراسة فيتمثل في الكشف عن مشروع “طه عبد الرحمن” ومآلاته من خلال سعيه إلى إبداع فلسفة حية، وتميّزه عن المشاريع الأخرى المقابلة له، وهو ما نسعى إليه أساسا من الدراسة، الذي يقوم على إشكالية رئيسة وجوهرية وهي:
كيف كانت قراءة “طه عبد الرحمن“ لفلسفة المفهوم في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، وما هو دور بنائية هذا “المفهوم“ في تجاوز التقليد والتأسيس لخصوصية فلسفية أصيلة ومبدَعة؟
ويمكن أن تتفرّع هذه الإشكالية إلى مكوناتها الأساسية وهي المشكلات الفرعية المتضمنة فيها؛ والتي سيتم معالجتها في فصول الدراسة؛ وهذه المشكلات بدورها تنحل إلى تساؤلات فرعية سنحاول تناولها ضمن مباحث، وقد اعتمدنا على مبدأ التدرج والانتقال من العام إلى الخاص ومن النظري إلى التطبيقي، وسنحاول طرح هذه المشكلات وفقا لترتيب الفصول تباعا، وهي: ماهي التّشكلات الفلسفية التي ميّزت مسارات المفهوم الفلسفي في الفلسفة؟ ماهي المساءلات النقدية التي اشتغل عليها “طه عبد الرّحمن” في طرحه لمسألة “المفهوم الفلسفي؟ ما هو البديل الذي يقدّمه عن مساءلاته النقدية المعرفية؟ ما هي أهم الممارسات الفلسفية والتطبيقات للبديل الإبداعي الذي يقدّمه طه عبد الرّحمن” عن مساءلاته النّقدية المعرفية؟.