تقديم:

يعتبر البحث حول الرأي العام من ضروريات العصر الراهن بالنسبة للدول والحكومات وحتى الشعوب ومما لا شك فيه أن الدول التي توصف بالمتقدمة قد بذلت أشواطا في هذا المنحى،  ولا تزال الحكومات في هذه البلدان تسعى للإحاطة بأكبر قدر من المعارف حول آليات تشكيل الرأي العام، لفهمه وبحث سبل التأثير عليه أو توجيهه بما يخدم استراتيجياتها، بينما يحظى الرأي العام بنصيب ضئيل من الاهتمام الرسمي  والأكاديمي في سياق الدول التي توصف بالنامية، بل إن المفهوم ذاته لم يستقر من حيث  معناه ومبناه، إذ تستخدم جملة من المصطلحات لوصف نفس الظاهرة (كالعقل الجمعي ، المخيال الجمعي، المزاج العام وغيرها…،)، ورغم ذلك نجد أن اصطلاح  الرأي العام له مبرراته وهو الأنسب من وجهة نظرنا.

وفي ظل قلة المراجع العلمية التي تبحث هذه الظاهرة وتحلل بيئاتها وآليات تشكيلها في أوطاننا العربية جاء هذا الكتاب ليمثل مدخلا منهجيا ونظريا بسيطا لدراسات وأبحاث الرأي العام، وليحاول ولوج فضاءات التفاعل الفردي والجماعي عبر رصد آليات تشكيل إجماع الرأي (على المستوى الجمعي للنسق) ومنه الرأي العام (على مستوى  البيئة الاجتماعية الأوسع)، وذلك بالإنطلاق من النموذج الجزائري كحالة دراسية، ولهذا التحدي أيضا مبرراته، فمن غير الممكن أن توصف تفاعلات الجزائريين مع القضايا العامة والخلافية خاصة بعد التغيرات الاجتماعية والقيمية لفترة ما بعد حراك2019 بأوصاف كالحشد أو الجمهور بالمعنى السلبي، و أن يبقى الرأي العام الجزائري دون مساءلة نظرية حول قابلية دراسته وتحليله لفهمه على الأقل وربما التحكم فيه.

بالتالي يسعى هذا الكتاب ليقرب القارئ والباحث الكريم من فهم الرأي العام في السياق الجزائري، مركزا على خصوصياته الاجتماعية والقيمية ومقترحا بعض المقاربات النظرية لتفسير آليات تشكيله.

على أمل أن تكون هذه الصفحات مدخلا لدراسة الظاهرة، ودعوة لزيادة  التركيز على  هذا الانشغال البحثي وما يرتبط به من قضايا كالتغيرات السوسيولوجية والقيمية للمجتمع، وتغير أساليب ووسائط التفاعل في بيئة الرأي، وانتشار الصراعات الجماعية والخطابات المتطرفة والشعبوية في بيئة الرأي، وهلم جرا…

ومن حيث المبنى تضمن هذا المؤلف المتواضع أربعة أبواب نعتقد أنها قد تسهم في تقريب القراء والمهتمين، من فهم خصوصية الرأي العام الجزائري الاجتماعية والقيمية، ومنه تمكينهم من فهم (ولو جزئي) لآليات تشكيل الرأي العام في بعض  السياقات الاجتماعية المشابهة.

و تضمن الباب الأول ماهية الرأي العام من خلال مجموعة عناصر هي  مفهوم الرأي، مفهوم الرأي الجماعي، مفهوم الرأي العام، تصنيفات و خصائص الرأي العام،  بينما حاول  الباب الثاني تقريب القارئ من آليات تشكيل الرأي العام في البلدان النامية إذ تضمن مراحل تشكيل الرأي العام و أهم العوامل المؤثرة عليه خصوصية الرأي العام في الدول النامية ومشكلات دراسته، أما الباب الثالث فيقرب القارئ  أكثر من الرأي العام الجزائري إذ تضمن الخصائص الاجتماعية والثقافية للرأي العام الجزائري، أهم قادة الرأي في المجتمع الجزائري، أهم فضاءات نقاش قضايا الرأي العام في المجتمع الجزائري، مشكلات دراسة الرأي العام الجزائري وأهم المنطلقات النظرية لدراسة الرأي العام الجزائري، في حين فصًل الباب الرابع في أهم القيم (الشورى  القوامة، طاعة ولي الأمر، الاقتداء…)، والمعايير  (الحلال والحرام، الموجب والسالب…)، السائدة في بيئات الرأي الجماعية وما يمكن أن يترتب عنها من تأثيرات على عمليات تشكيل الرأي العام الجزائري.

ولا يفوتنا  في الأخير أن ألتمس الصفح من القارئ الكريم في بعض المجازفات التوصيفية التي لم نجد بديلا عنها لقلة الدراسات السوسيولوجية التي تحلل بيئة الرأي العام الجزائرية بثرائها وتنوعها وخصوصياتها وحتى تناقضاتها، متمنيا قراءة مفيدة.

رقاز  عبد المنعم ، العربي بوعمامة