تفصيل
- الصفحات : 144 صفحة،
- سنة الطباعة : 2023،
- الغلاف : غلاف مقوى ،
- الطباعة : الأولى،
- لون الطباعة :أسود،
- ردمك : 978-9931-08-490-7.
نحسب اللغة من الظواهر الاجتماعية الأكثر تدليلا على الحضور الكينوني والوجودي للإنسان، باعتبارها مظهرا سلوكيا وفكريا، ينضد لفعل التواصل والتبليغ والتعبير عن الحاجة، ومن ثمة، فقد مثّل موضوعها هاجسا بحثيا وحقلا ابستمولوجيا شد إليه انتباه رجالات العلم والمعرفة منذ البدايات الأولى لتشكل الفكر الإنساني، سعيا إلى مطاولة حقيقتها وإدراك كنهها.
وعبر هذا المأخذ من الغاية، انساق البحث في موضوع اللغة عبر مسالك متعددة، بتعدد الغاية والمسعى. وعلى الرغم من التقاطع الذي عرفته المساعي الأولى التي اتجهت صوب البحث في علاقة اللغة بالفكر، وعلاقتها بالأداء وتهذيب أنظمة التواصل اللغوي، فإن الدراسات اللسانية الحديثة، بخاصة الغربية، انفتحت على آفاق بحثية متجددة تروم الكشف عن طبيعة الأنظمة اللسانية للغة بوصفها كلية معرفية.
وضمن هذا التعدد، شهد حقل الدراسة اللسانية تحولات مهمة، بدأت مع المنعطف الأول الذي أرست مبادئه اللسانيات البنيوية لرائدها ديسوسير. ومن ثمة المدرسة الوظيفية، وصولا إلى المنعرج الثاني؛ الذي جسدته النزعة الفطرانية للغة مع تشومسكي. ومن هنا، أضحت مباحث اللغة العربية بحاجة إلى مواكبة التحولات الفكرية الراهنة، والخروج من بوتقة الانغلاق على التراث، والاستثمار في مُخرجات الفكر اللساني المعاصر، وإعادة الخوض في جملة الحقائق المعرفية التي قدمت للغة العربية، التي تعانق حضورها وكنهها بقدسية الخطاب الكوني الذي أنزل بلسان عربي مبين، وجاء في الذكر الكريم ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [1].
وتوافقا مع ذات المسعى، فإنّ المتتبع لمسار الدراسة اللغوية العربية، على حقيقة ملازمة البحث اللغوي العربي للنص القرآني من منطلق العناية والتمحيص، فبعد مرحلة التقعيد التي عنيت بالمعيار النحوي، انتقل الاشتغال إلى المستوى الخطابي وبلاغة الخطاب القرآني، بدءًا بالنظريات الكبرى التي التفتت إلى النظم والمقام ومظاهر الإعجاز القرآني عند الجاحظ والجرجاني والباقلاني.
ولئن كان البحث في تجليات وملامح الإعجاز اللغوي للقرآن الكريم، قد عني في المستهل بالشق التشريعي والبياني، الذي التفت إلى تبيان خصائص الخطاب المتعالي من حيث الأساليب التعبيرية وحسن التأليف وتشاكل النظم وقضية الملاءمة، ومناسبة اللفظ للمعنى، وذلك بغرض الرد على الطاعنين وإفحام المشككين، فإنّ الدراسات اللسانية العربية الحديثة وبعد انفتاحها على روافد الدرس اللساني الغربي المنهجية ومناويله الإجرائية، اتجهت صوب الخوض في التجليات الإعجازية اللغوية للخطاب القرآني اعتمادا على ما أفضته مقترحات وتصورات المدارس اللسانية الغربية.
وفي ضوء هذا التجلي، جاء موضوع منجزنا الذي يدخل ضمن حقل الدراسات اللسانية المقارنة، الذي نسعى من خلاله إلى تقفي أثر الملامح الإعجازية للغة الكتاب المنزل في مستواها الصوتي، في ظل ما نزعت إليه طروح للمدرسة الوظيفية، وما قدمته من آليات إجرائية تنهل من النزعة البنوية المحايثة التي تشتغل على البحث في طبيعة العناصر الصوتية وعلاقاتها البينية ووظيفتها اللغوية. ومن هنا، فإن سؤال الإعجاز في لغة الخطاب القرآني وبخاصة الإعجاز الصوتي، في ضوء المتجدد اللساني، سيمتاح حتما من روافد الدرس الفونولوجي، حيث تتهيأ له حيازة الإقناع العلمي التي يجليها المنهج التجريبي وإجرائية الوصف الآني السكوني Synchronique، وذلك من خلال تبيان الخصائص التي تكتسبها الأصوات اللغوية عبر سياقات الخطاب القرآني وأنساقه التبليغية، هذه الخاصية التي يُفرق بها المتلقي سماعا بين بقية الأصوات الأخرى، وبالتالي أي تغير يطرأ على المثيرات الصوتية حتما ستَتَغير الصور الذهنية له، بحيث لو أُبدل أو زحزح عن مكانه قد يُحدث تغيرًا في دلالة الآية، ونروم من ذلك إلى تأكيد فرضية أنّ الخطاب القرآني لا يقوم على اعتباطية التشكل في بناه وصيغه الإفرادية دون مسوغ، أو بمعنى آخر لا محل لأية ظاهرة صرفية من إبدال أو إعلال أو إدغام، أو حذف أو زيادة إلاَّ وارتبطت بوظيفة دلالية مقصودة، ولن يتأتى تشوف وتكشف تلك الحقيقة إلاَّ من خلال تطبيق إجراءات تحليلية فونولوجية حديثة.
واختيار سورة مريم أنموذج للدراسة، لم يكن وليد رغبة ذاتية، أو اندفاع مغامر، وإنّما كان وفق قناعة رصينة وشغف علمي جامح، وذلك لما احتوته السورة من خصوصيات صوتية، وإنزياحات صرفية، وحمولات دلالية، أمّا الداعي من وراء خوض غمار هذا الموضوع الذي لُفّتْ مسالكه بمحاذير البحث في الخطاب المنزل، كان بدافع أسست له المسلمة المطلقة بأنَّ القرآن الكريم هو الأنموذج الأمثل المتعالي والأنسب للكشف عن جمالية أصوات اللغة العربية حينما يبلغ الخطاب ناصية الفصاحة والبلاغة، إضافة إلى دوافع أخرى أجملها في الآتي:
ولما كان موضوع البحث يدور في فلك الصوت القرآني وما يكتنزه من سمات إعجازية، حاولنا رصد تلك المزايا الفونولوجية للقرآن الكريم، من خلال جملة من المساءلات نجمعها في الآتي:
كل هذه التساؤلات دفعت إلى التقيد بضوابط مناهج بحثية تراوحت بين الوصف والتحليل كما ارتهن إلى آليات الإجراء التجريبي في مواطن أخرى من البحث بخاصة في الفصل الثاني من هذا الكتاب الذي يتوخى بلوغ النتائج اليقينية من خلال تحليل الصور الطيفية لهيئة المنطوق ومن ثمة القراءات التي تخص الكميات الواصفة للوحدات الصوتية، للمقاطع الصوتية اللغوية، وكذا المقاطع التطريزية التي تحكم بنية منطوق الخطاب القرآني.
وتوقا للإلمام بكل مفاصل الدراسة، جاءت هندسة الخطة البحثية، استجابة لمطلب الإحاطة بجوانب الموضوع، انطلاقا من التأسيس العلمي النظري، وصولا إلى النتائج المتوخاة. ومن ثمة، فقد تفرع البحث عبر عدّة فروع، يتقدمها مدخل نتطرق فيه إلى حدود المصطلحات التي شكلت عناصر العنوان. كما جاء الفصل الأول من الكتاب ليتحدث عن “تجليات المبحث الفونولوجي في الدراسات العربية“، عرضنا فيه عبر مباحثه الخمسة إلى تقديم تجليات الدرس الفونولوجي في الدراسات العربية القديمة من خلال ما نلفيه عند جمهور النحاة كما هو عند الخليل وسيبويه وابن جني، وبالمقابل، تناول المبحثان الأخيران من الفصل الأول، طرائق الاشتغال الفونولوجي عند علماء اللغة من العرب المحدثين، حيث فاضلنا الوقوف على أعمال تمام حسان، وعبد الرحمن الحاج صالح صاحب النظرية الخليلية.
انتقل الاشتغال في الفصل الثاني إلى إخضاع الوحدات الصوتية المصطفاة من آي سورة مريم، إلى الآلية المخبرية والقراءة الطيفية وذلك بغية التحقق من مدى مصداقية الاستنتاج الفونولوجي لتفرد البنى الصوتية في السورة بسمة الإعجاز الصوتي.
كما انتهى بحثنا إلى جملة من النتائج التي ارتأينا أنّها مهمة في مجملها، عرضنا فيها إلى مستصفى ما توصلت إليه الدراسة، بخاصة ما أفرده الرافد اللساني عبر مباحث الفونولوجيا وآلياتها الإجرائية والمكنة التي أتاحتها لتقفي الملمح الإعجازي للبنى الصوتية للخطاب القرآني.
أخيرا وليس آخرا، فإنّني لا أدعي الكمال في هذا المنجز، وحسبي أنّني صدقت النية في العمل، وتوسمت من خلال ما عرضت إليه من دراسة إسهاما وإضافة بحثية، تعن لمشروعية التشافع العلمي وابستيميتها، نظير ما ينادي به البعض من قطيعة.
الدكتورة: عدة زهرة
[1]– سورة الزخرف، الآية 03.